المكان : قاعة عدن مولالزمان : الساعة الرابعة عصرا من يوم الخميس الوافق7/2/2013 مالمناسبة : حفل مقيل الشاب أصيل ناصر إسماعيل ابن إحدى حفيداته من آل اليوسفي كنا جميعـا على وقع همس بأن الفنان الكبير محمد مرشد ناجي على شفا وصول إلى المقيل كضيف شرف كبير لهذه المناسبة، وتحول الهمس بعد ثوان إلى همهمة بأن الفنان الكبير سقط مغشيـا على وجهه وهو يصعد درجات السلم الحجري الموصل إلى قاعة الأفراح الكبرى في عدن مول بمدينة كريتر.فتحول الفرح الغامر بتشريف هذا العلم الفني الكبير في هذه المناسبة الاجتماعية الخاصة - و المرشد كعادته رجل التشريف الاجتماعي الحاضر بين أوساط العامة والخاصة رغم مكانته في القلوب وتاريخه الذي يمشي أمامه بأنصع الإنجازات الفنية – إلى حزن عميق إذ لم تمر دقائق معدودة حتى جاء خبر وفاته إثر هذه السقطة القلبية المفاجئة.أتصور وأنا مشارك في هذا المقيل طلته البهية الضاحكة وابتسامته المغردة على وجهه المبيض بلحية رمادية وهي تهل علينا مع مزيج من كلمات متفرقة وقفشات سريعة أو نكات على الماشي، ومع كل خطوة له تجد قلوب الجالسين تهفو إلى رؤيته ومشاركته الحفل البهيج حتى يطيب له المقام في أحد أركان المقيل مسروقـا بنظرات الجميع المحبة والمنطلقة لرؤيته خاصة وأنه كان خلال الفترة القليلة الماضية قد غاب عن المناسبات العامة لظروف صحية يعانيها.بمجرد وصول النبأ الكارثة – ولا راد لقضاء الله وقدره – تحول المكان من حفل إلى مأتم .. أعظم ما جسده هذا المشهد المأساوي هو أبو العريس الزميل ناصر إسماعيل وهو يأتينا باكيـا مجهشـا بدموع يمسحها عن خديه، راميـا فرحة ابنه البكر وراءه، ويمدنا بكلمتين مغلولتين بأصفاد الحزن والأسى:المرشدي مات!كانت دموع الرجل قد انتقلت إلينا لتصيبنا نحن الجالسين جميعـا، وبالخصوص أنا وصديقي الحبيب عصام خليدي بصدمة تحولت إلى مقلتينا الحمراوين السائحتين بدمعتين متقطرتين كأننا وعصام على وفاق في هذا المشهد المأساوي ذلك العاشق من رأسه حتى أخمص قدميه للمرشدي وتراثه، والذي لا يفتأ يقول:المرشدي ابي الروحي والفني.خرجنا من المجلس دون وجهة؛ إلا أن ننفض عن أنفسنا رغبتنا السالفة بالاحتفال لنستبدلها بكومة مثقلة من الأسى الكظيم ناء بكلكله على صدورنا.وفي طريقنا إلى بيوتنا خيل لي أن الشوارع تبكي غروبـا، والمنازل تتهاوى غماما والإسفلت لبس ثوب السواد، والبحر من جانبينا ييسيح انكسارا هادئا على شواطئ المدينة رغم أيامه العاتية.خيل لي أن عدن تبكي.. واظنها لم تبك يومـا كما أراها اليوم ويتغشى سماءها تناقل الأخبار عبر التلفون المحمول برسائل واتصالات من كل حدب وصوب.شخصيـا لم أشعر بفقدان حضاري وروحي – وربما ما تلاها وما سبقها كان خارج اهتمامي سوى ما كان شخصيا وحميميا – سوى مرتين: مرة عند رحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني واليوم برحيل المرشدي.انه الكم نفسه من الفقدان الهائل.في حالة عبدالله البردوني شعرت أننا فقدنا مكتبة شفهية وتراثـا شعريـا معجزا في عصرنا المليء بالإحباطات والانتكاسات حيث كان البردوني على قدر المسئولية التاريخية في عصره، وأن فراغـا ثقافيـا قد ملأ الساحة الأدبية والشعرية والإبداعية والإنسانية لما عرفته من هذا الشاعر من مخزون معلوماتي هائل يذرب على لسانه بسلاسة ونسق عميقين، فكان رحيله أشبه بخسارة وطن في رجل.إن ما أشعره به الآن في فقدان المرشد فهو استعادة حقيقية لذلك الشعور بالفقدان الحضاري والروحي الذي غمرني في حالة رحيل البردوني يزيد عليه فقدان آخر أشبه ما يكون بخواء خاص يعتري أركان هذه المدينة عدن المتمسكة بنواجذ ما تبقى من معنى حضاري ومدني فيها.فلقد كان المرشدي أحد الأعمدة الحضارية والمدنية والثقافية لهذه المدينة على مدى أكثر من ستين عامـا، ففي كل مكان من أمكنة عدن، ظل وبصمة لهذا الفنان الكبير، ولقد ملأ صفحات جرائدها، ونشر نغمته ولحنه وصوته الجميل وكلمات أغانيه في كل بيت وحافة(حارة) او زغط من زعاطيطها عبر المخادر الستينية إلى الحفلات الغنائية في سينمات عدن ومسارحها أو عبر أثير إذاعة عدن اوتلفزيونها الأبيض والأسود أو الملون. ملأ ميكروفونات وأسطوانات وبرامج إذاعة وتلفزيون عدن بإطلالة صوته كل عصر بأغان كانت (قيلولة عصرية) ادمناها منذ مطلع الستينات باغان تقليدية اوحداثية فكانت تميمة يومية شكلت ذائقة كل من عاصرها، ومحطة استعادة وذاكرة متوالية رسخت في ذاكرتي وذاكرة كل معاصري هذا الفنان.زد على ذلك المزاج الشعبي الجماهيري الذي تمتع به وجسده في فنه وسلوكه ومعشره وحضوره فجعلته رمزا شعبيـا ارتقى إلى مستوى مقولة: فنان الشعب.لم يكن المرشد فنانـا من الطراز النخبوي أمثال خليل محمد خليل ، سالم بامدهف، أحمد قاسم ومحمد عبده زيدي، بل كان فنانـا جماهيريـا معبرا عن هموم وتطلعات وآهات ومعاناة وأفراح الطبقة الشعبية، وهي عبقرية تفرد بها من خلال بساطة ألحانه وعدم تركيبيتها عبر استخدام التنويعات الموسيقية التي قد تكون مجددة ولكنها عند عامة الناس قد تكون مرهقة لآذانه المشغولة بهمومها وكدحها و معاناتها،و لقد كانت بساطة المرشد اللحنية واتجاهاته الغنائية تحاول التقاط المحلي والشعبي بكل ما يعنيه هذا المعنى من تجل يكاد يكون يمثل له انشدادا كليـا واستغراقـا فيه.يبدو المرشدي في هذا التوجه المحلي لحنـا وكلمات وتأدية، واستغراقـه في محاولة مخاطبة العامة ، حتى ولو كان ذلك على حساب الشكل الحداثي للتجديد الموسيقي الذي كان رائده الراحل أحمد بن أحمد قاسم. كان يراه هاجس التغريب أو لنقل التعريب الذي يحاكي بصورة ما الألحان العربية أو الموسيقى الغربية الكلاسيكية أو الحداثية أبعد منالاته هذا ، حتى لكأنـه كان يعيب على أقرانه وهم يسلكون طريق التجديد الحداثي والاستلهام من إنجازات الموسيقى العربية والعالمية ،وهو منهج عده خارج اهتمام مشروعه الغنائي باعتباره مثلبة وليس إنجازا، ولهذا الموضوع وقفة قد يطول الوقوف معها في مبحث آخر.لكن على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن فإن استغراقه بمزاج المحلي و الشعبي والجماهيري ينأى به عن مدرسة التجديد والتطوير، على العكس من ذلك كانت مشروع المرشدي تجديدا في الأصيل (الشعبي والعامي والجماهيري)، ولذلك كانت بصمته التاريخية في تحديث الغناء من زاوية نظر مختلفة وربما متباعدة عن أكثر منافسيه الفنانين من مدرسة (أحمد قاسم، الزيدي)، ولكنها متكاملة مع مشروع شامل شكل مدرسة للغناء المعاصروالتجديدي وكانت جناحـا من جناحي التجديد الغنائي لا يعتمد على تطوير شكل الأغنية وتنويعاتها وثيماتها وهارمونيتها المركبة وإنـما ينطلق التجديد فيه من تحقيق البساطة التي تلتقي مع المزاج الشعبي والعام، وفي البحث عن كل ما يعزز هذه المحلية ذات الذائقة العامية التي يسهل التقاطها من آذان العامة والنخبة معـا.ومن المفارقة فإنـه يمكن القول إن ثمة تضادا حيويـا يمكن ملاحظته في شخصية المرشدي وفي مشروعه الغنائي. فقد يبدو أن الذي يسلك منهج الفن الشعبي هو فنان فطري لا يتمتع بقدر من الثقافة ومخرجاتها في تطوير ألحانه وأدائه، بل كان على العكس شخصية ثقافية بالمعنى التخصصي البحت وواعية ، فهو رجل سياسة وثقافة قبل أن يكون فنانـا – وهو ما اعتاد قوله مرارا كما مر بذكره في مقالة سابقة لي (ثقافية الغناء) – أي أن ثقافة المرشدي ومكتبته الأدبية والسياسية غنية وربما هي أكثر عددا وعدة من رجالمحسوبين على الأدب والثقافة والسياسة ويمتهنونها امتهانـا حرفيـا صرفـا.لقد كان ذلك المشروع الغنائي الذي يرتكز على المحلية وعلى الذائقة الشعبية والعامية والإيقاعات اليمنية الخاصة - إلا ما ندر- إنما هو تعبير عن سلوك ثقافي من رجل يريد أن يجعل مشروعه الغنائي هو البحث في الأصيل من الغناء اليمني المحلي بتنويعاته، وفي مخاطبة العامة قبل الخاصة، وفي البحث عن خصوصية محلية لا مجاراة تجديدية عربية كانت أو عالمية؛ لأنـه كان يعتبر ذلك من باب إما المجاراة العصر أو الوقوع في فخ التقليد الأعمى للتجديد الذي لا يمنح الفنان بصمة خاصة به ذات نكهة محلية، وكان شرسـا في مجابهة زملائه الفنانين الرواد والمجددين ويقول هذه التصريحات علنـا ودون مواربة، و هذه النقطة برأيي الدفاع عنها مختلطـا بالإيجاب والرفض معـا.وهو موضوع يحتاج إلى تفصيل لاحق؛ لأن ليس كل تطوير هو تقليد أعمى للتجديد والمعاصرة كما انه ليس الاستغراق في تنكب المحلي معاد للتطور.لذا فإن تجديد الأغنية الحديثة كان بفضل جناحين أحدهما لمدرسة المرشدي والآخر لمدرسة أحمد قاسم. إن هذا الالتزام المفرط للمحلية والذائقة العامة قد يجعل ألحان المرشد من الناحية التحليلية قليلة الكم في كم التجديد والتلوين والتنويع الداخلي للأغنية بذاتها، أي أنـها تكاد في أحايين كثيرة تفتقد للتنوع الموسيقي الهارموني، ولكنها تنحاز للحيوية الغنائية الأدائية.و لا يمكن وضع الكلام في السياق التحليلي مثلبـا بقدر ما هو منهج أراد منه الفنان المرشد التوجه المباشر لأذن المستمع أيـا كان من العامة أو النخبة بأقصر الطرق اللحنية والموسيقية وأجود الطرق الأدائية المخصوصة بالنكهة المحلية.وهذا مشروع غنائي يجب أن يدرس على حاله وفي ضوء توجه الفنان الفكري والثقافي وفي شكل ومضمون وأداء الأغنية، فقد أرادها أغنية من حيث اللحن والأداء سهلة إلى حد الإعجاز والسلاسة، ومحلية إلى أعلى درجات الأصالة الذاتية في الإيقاع والنغم، وهذا بقدر ما يبدو في نظر المحلل الحداثي قصورا لذلك الذي ينتصر لتوجه التجديد والتطوير في قالب الأغنية بما يحتاجه من وسائل وأشكال موسيقية وهارمونية حداثية تتسابق في مفارقة الأغنية التقليدية شكلا ومضمونـا وتطرق أبوابـا جديدة في تعدد اللحن والنغم والإيقاع اعتمادا يرتكز على تنويع اشكال والوا وهارمونيا الموسيقى لا الاداء الغنائي بصورة أساسية.إن هذا التحليل قد يبدو مصطدما مع ما قدمه المرشد من رصيد غنائي اعتمد على التجديد في العنصر المحلي كمنهج، وفي الأداء الغنائي على حساب التنويع الموسيقي.. وهذا امر غير صحيح بالمرة لأنه استطاع باتخاذه هذا المنهج ان يخلق بصمته التاريخية في تجديد الغناء الحديث حتى لكأنه يستحق بذلك الوصف الذي سبق الحديث عنه: فنان الشعب.كل ذلك هو ما يجعل من محمد مرشد ناجي ليس قامة غنائية فحسب بل علمـا ثقافيـا لمشروع تجديدي نهضت به مدينة عدن بصورة خاصة في خضم مشروعها المدني والحضاري وهو ما يزيد من شعوري في لحظة سماعي نبأ رحيله انه فقدان تاريخي وحضاري قلما يجود الزمان بما يعوضه.