آخر تحديث :السبت-16 أغسطس 2025-09:50ص

رسالة اعتذار لأستاذي الشاب

السبت - 28 مايو 2022 - الساعة 08:43 ص
محمد كليب أحمد

بقلم: محمد كليب أحمد
- ارشيف الكاتب


أرادت الصُدَف أن أكون تلميذاً في قاعة الدراسة الجامعية – وقد أوشكْتٌ حينها – أن أدنو من العقد الخامس من العمر ، بعد أن أرغمتني الظروف لأرافق ابنتي أثناء دراستها الجامعية والتي تزامنت مع أصعب مراحل الأزمة الطاحنة التي مرّت بها مدينتنا الحبيبة عدن ، فكان من الصعب الاطمئنان تماماً الاستقرار الأحوال والأوضاع طوال فترة الذهاب والإياب للجامعة لفتاة في مقتبل العمر وفي عامها الجامعي الأول.


فما كان مني سوى الالتحاق بالدراسة الجامعية والتي كنت قد توقفت عنها منذ أمدٍ طويل بعد أن اضطررتٌ للدخول في مجال العمل وفي معترك الحياة لإعالة والدي الضرير الطاعن في السن والذي فَقَدَ بصره في سنوات دراستي الابتدائية .. ووجدت نفسي في العام الثالث عشر بعد الألفين – وبهذا العمر المتأخر – أحد رواد تلك القاعات الجامعية.

 

ومن حسن طالع هذه المرحلة الدراسية أن يجتمع نخبة مميزة من الدكاترة أساتذتنا المبدعين لتقديم مقررات هذه المرحلة في هذا القسم الجديد الذي تم افتتاحه في كلية الآداب جامعة عدن وهو قسم الفنون الجميلة .


ولعل أجمل المصادفات أن يكون أحد أساتذتي الأجلاّء هو الأستاذ القدير والفنان المبدع ( عبدالقادر الكلدي ) .. هذا القامة الذي كان يجمع في تركيبته الإنسانية العديد من الخصال ، وأهمها الأخلاق العالية الرفيعة التي يتميز بها ، حيث كان أحد أهم من زاد تعلقي بالجانب الأكاديمي والفني معاً في هذه القاعة ..


فكنت كثير الحديث معه في الجانب الدراسي والفني والاستفادة من خبرته العلمية والعملية في هذا المجال ..


وبطبيعة الحال – كم نشأنا ومنذ نعومة أظافرنا – أن يكون للأستاذ مكانة عالية وتقدير جم، ومهما كانت علاقتنا به ، فيسبق كل حديث وكل كلمة ننطقها بصفته الرفيعة ( أستاذ ) ، وكانت تنساب هذه الكلمة دون أي تردد أو تحفّظ ، فهو في الأول والأخير أستاذنا ودكتور مادته الأكاديمية التي نتلقاها في قاعة الدرس .


وكنت أشعر بخجل شديد كلما بدأت الحديث معه بكلمة أستاذي حين يقاطعني طالباً توقفي عن مناداته بذلك ، وهو يبتسم – وبطريقته الوقورة المعتادة – قائلاً :


- معذرة .. أنك تشعرني وكأنني رجل عجوز أو قد ناهزت من العمر الكثير ، فأنا أصغر منك عمراً و ....


لكنني لا أترك له مجالاً لمواصلة الحديث ، وأكرر عبارتي المعتادة : العين لا تعلو على الحاجب أستاذي ، وأنا أقصد ذلك فعلاً ، لاسيما وأنه أستاذ جامعي ، وكُلِّفَ لاحقاً بإدارة قسم الفنون الجميلة بالكلية ، وامكانياته الفنية لا حدود لها .

 

وحتى بعد التخرج بسنوات ، كنت على تواصل مستمر به ، وتجمعنا الصُدَف أحياناً هنا أو هناك .. ونتبادل أطراف الحديث وما أعتاد الناس به من السؤال عن الأحوال والأخبار ، وأظل أمامه ذلك التلميذ العجوز الذي يجلّ من كان سبباً في تقديم كل ما يمكن في سبيل حصولنا على المعلومة والخبرة والتوجيه والإعداد لنغدو في مكانة أفضل مما كنا عليه .


وكلما جالت بخاطري تلك الأيام الجميلة مع هذا الفنان القدير يراودني الخجل كثيراً  بأنني كنت أحياناً كثيرة – وبدون أي قصد – أحسسه بكبر مكانته التي يربطها مباشرة بإصراري على الإرتقاء به إلى عمر زمني أكبر من عمره ، وأنا ذلك الإنسان الذي نَحَتَ الدهر في ثنايا حياته كل ملامح العجز والشيخوخة – التي لا أعترف بها – رغم مرور السنين وما تركته في هذا الجسد النحيل المنهَك ، أو هذه الملامح الهرمة التي لا مناص منها ، فهي واقع إجباري لكل من سحقته الأيام في هذا البلد المنهك ككل أبنائه ..


أستاذي الشاب الوقور / عبدالقادر الكلدي .. ها أنا اليوم أعاتب ذاكرتي وألوم نفسي عن أي انطباع أو سوء فهم تركته لديك عن غير قصد ، أو أي إزعاج قد أنتابك لتصرفي الأخلاقي هذا غصب عني ، فأنا لم ولن أتخلى عن تقديسي لكل معلم أو مربٍ أو أستاذ وأنت أحدهم .


ولم ولن أنقصك هذه المكانة المقدسة لدي ، رغم أنك في مقتبل العمر ، وأنا الهرِم المٌنهَك ، الذي لا زلت أحمل روحاً شابة تؤهلني للعطاء والإسهام والإحساس بالحياة رغم كل الصعوبات ، وتظل حكمتي في هذه الدنيا : لمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياة ؟ ...


تحياتي القلبية الصادقة.