أمذيب صالح أحمد
كانت القرون الوسطى في القارة الاوربية عصور تخلف وظلام وهمجية ووحشية لا نظير لها في البقاع الاخرى من العالم ، وفي نفس الوقت كانت هذه القرون الوسطى الاوربية هي عصور ازدهار وتقدم وحضارة إنسانية في العالم الإسلامي آنذاك. وعندما رأى الملوك والامراء الاوربيون أن الدين الإسلامي كان دافعاً للتقدم والتطور والازدهار في البلدان التي اعتنقته وجعلته وسيلة للحكم والإدارة حاولوا تقليد العالم الاسلامي باستخدام الدين المسيحي وسيلة للحكم والإدارة .وبما أن الديانة المسيحية لم تكن فيها أية شرائع أو قواعد لتنظيم حياة المجتمع الإنساني كالإسلام وانما هو عبارة عن مواعظ وضعها اتباع المسيح عليه السلام فقد أدعى البابوات والقساوسة المسيحيون ان الله قد فوضهم في الحكم والتسلط على الناس .فتحالفت الكنيسة مع الملوك والامراء الاقطاعيين الذين اعجبتهم فكرة التسلط على رقاب الناس بتفويض الهي .فمورست كل أنواع البطش والطغيان من قتل وحرق وسلب ونهب واستعباد على الاوربيين.
وبعد استقرار المسلمين مدة طويلة في الاندلس وغرب فرنسا وجنوب اوربا وصقلية واحتكاكهم الواسع بالولايات الاوربية في أواخر القرون الوسطى أكتشف الاوربيون ان الحكم والإدارة في العالم الاسلامي هو علماني إذ لا وجود لرجال الدين في الإسلام كحكام وأمراء فالشريعة الإسلامية دولة سماوية التقنين ودنيوية التطبيق يطبقها عامة الناس ويفسرها العلماء والدارسون حيث لاتوجد كهانة دينية في الإسلام .اما رجال الدين المسحي فقد جعلوا من انفسهم كهنة مؤلهين وسفراء الله على الأرض, ولذلك قام الاوربيون بالثورة على سلطة الكنيسة الدنيوية وابعدوا رجال الدين عن الحكم والإدارة معلنين الفصل بين رجال الدين وبين الحكم والإدارة وحصرهم في الكنائس وليس الفصل بين الدين المسيحي وبين حياة المجتمع الأوربي حتى بلغ الامر في بريطانيا أن ملكها اعلن نفسه ملكاً ورئيسا للكنيسة في ان واحد بعد ان تمرد على البابا في روما, ومازالت احدى وظائف ملك بريطانيا إلى اليوم هي حراسة الدين (protector of faith ( كما كانت وظيفة الحاكم عند المسلمين تماماً التي هي (سياسة الدنيا وحراسة الدين) لان الدولة في الإسلام تقوم على شريعة عادلة متوازنة سماوية التنظير والتقنين العام غير أنها دنيوية التطبيق والتفصيل.
وعندما خرج الاوربيون إلى قارات العالم بعلمانيتهم ذهبوا غزاة مستكبرين رافعين الاعلام الدينية الصليبية إلى أمريكا الشمالية وامريكا الجنوبية وافريقيا واسيا وأستراليا فاستعمروها واستوطنوها بنظام الفصل العنصري واستأصلوا شعوبها الاصلين واغتصبوا أراضيها ونهبوا ثرواتها وصدروا الكثير منها الى بلدانهم وقاموا بتنصير من بقي من شعوبها بالحديد والنار أولاً وبالترهيب والترغيب فيما بعد .أما حين تغلبوا على المسلمين في أمارات الطوائف بالأندلس قتلوا منهم ما استطاعوا واجبروا البقية على الارتداد عن الإسلام بالتنصير كما اقاموا لهم محاكم التفتيش والتعذيب .
إن الدولة الاوربية العلمانية حين تخرج لاستعمار مناطق العالم كان يرافقها الجناح السلمي للاستعمار المكون من فرق التبشير المسيحي ، فالدولة الاوربية العلمانية هي بطبيعتها دولة استعمارية عنصرية استكباريه.
وعندما خططت الدول الاوربية لإسقاط اخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية التي كانت تشكل خطاً دفاعياً عن الامة العربية رفعت شعار العلمانية بمفهومها الاستعماري الجديد وهو فصل الدين عن الدولة ، فنخرت الدولة العثمانية من الداخل على مدى قرنين من الزمان الثامن عشر والتاسع عشر حتى تمكنت من اسقاطها كاملاً بعد ان تغلغلت في البلدان العربية في الشمال الافريقي ، وفي الحرب العالمية الأولى أجهزت على الخلافة العثمانية وأنشأت مع عملائها الدولة التركية العلمانية الحديثة ثم سيطرت على المشرق العربي وجزأته باتفاقية سايكس بيكو ، وفي نفس الوقت أعلنت بريطانيا في 1917م وعد بلفور بإقامة دولة يهودية دينية على ارض فلسطين كخنجر بين المشرق والمغرب العربيين لينغرز في قلب الامة العربية المسلمة .
اذا العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة هي حق يراد به باطل ضد العرب والمسلمين لان الإسلام هو مجموعة من الشرائع التي تنظم الحياة الاسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والسياسية والأخلاقية لا توجد في دين أخر فكل الأديان تدورفي فلك اللاهوت فقط، أما الإسلام فهو دين ثوري على الأرض يحرك الناس ويدفعهم نحو استعمار الأرض بأخلاق حميدة حضارية وإنسانية للتطور والارتقاء ويقاوم العدوان والظلم والباطل والهيمنة الاستعمارية.
ان الأحزاب العلمانية في الدول العربية والإسلامية قد وقعت في فخ العلمانية التي نصبها لهم خصيصا الغرب الامبريالي الاستكباري. لان العلمانية التي طبقها الاوربيون في بلدانهم بعد الثورة على الكنيسة والاقطاع كانت تعني ازالت حكم الباباوات والقساوسة المتحالفين مع الملوك والاقطاعيين باسم الدين، الذين كانوا يصادرون ممتلكات الناس و أموالهم و يقتلونهم و يحرقونهم او يستعبدونهم ويمنحونهم صكوكا للغفران او لدخول الجنة لانهم كانوا يعتبرون انفسهم ظل الله على الأرض . اما العلمانية التي صاغها و روج لها الغرب الاستعماري منذ تامره على الدولة الإسلامية للخلافة العثمانية في بداية القرن التاسع عشر فهي فصل الدين الإسلامي عن الحكم في الخلافة العثمانية أي في الدول الإسلامية لاحقا. لان الدولة الإسلامية التي نشأت منذ أيام الرسول الكريم و حتى أوائل القرن العشرين ارتكزت على الشريعة الإسلامية بمنظوماتها الخمس الشرعية في الحكم. و كانت الخلافة الإسلامية تقوى بتطبيقها الرشيد للإسلام و تضعف بقدر انحرافها عن الإسلام، غير انها استطاعت منذ القرن الثامن الميلادي ان تهيمن على اجزاء من غرب و جنوب اوروبا حتى القرن الخامس عشر بقيادة العرب ، و بعد ذلك استطاعت الدولة الإسلامية بقيادة الاتراك ان تهيمن على شرق اروبا منذ القرن الخامس عشر و حتى أوائل القرن العشرين ، مما كون لدى الأوربيين عقدة الخوف من قوة الإسلام في الحكم التي تحولت اليوم الى "رهاب إسلامي" لذلك عملوا على صياغة العلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة لتحقيق هدفهم بأبعاد الإسلام عن الحكم حتى لا تقوم دولة للإسلام تؤرق مضاجعهم مستقبلا.
ان العلمانية الاوربية انحصرت في ابعاد رجال الدين الكهنوت واعوانهم الذين يدعون نيابتهم عن الله في الحكم، اما العلمانية التي صاغها الغرب الاستعماري للمسلمين فهي ابعاد الإسلام عن الحكم التي تبنتها النخب الممسوخة بالثقافة الأوربية وقشور حضارتها. ان ابعاد شريعة الله بمنظوماتها الخمس التي قررت قواعدها العامة لاستعمار الدنيا قد تآكلت واحدة بعد الاخرى على ايدي الاستعمار الغربي أولا ثم على ايدي الحكام العرب الذين خلفوهم. فبدأوا بإلغاء المضمون الإسلامي من الحكم والإدارة والقضاء، ثم بإلغاء المضمون الإسلامي من العلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية في المعاملات وإحلال الربا والاستغلال وما رافق كل ذلك من انحلال في الاخلاق الإسلامية الملازمة لهما. ولم يكتفوا بتحطيم منظومتي الحكم و الاقتصاد من الشريعة وما لازمهما من الاخلاق ، بل شرعوا اليوم من خلال الّة اعلامهم الكبيرة و نفوذهم الواسع بالهجوم على منظومة العلاقات الاسرية و العائلية بتمجيد مجتمع الشواذ من البشر و الخنثويين و الزواج فيما بين الذكور ، و الزواج فيما بين الاناث مخالفين سنن الكون و الحياة و قواعد القوانين المادية و الإنسانية بتحويل الاستثناء الى قاعدة عامة بهدف تكوين اسر مقطوعة الارحام و منعدمة التناسل بغرض التشويش على مفهوم الاسرة الطبيعية لتحطيمها تدريجيا حتى تسهل السيطرة الاستغلالية على المجتمعات البشرية و توجيهها في خدمة المترفين من المستكبرين و العنصريين في الغرب الرأسمالي.