آخر تحديث :الثلاثاء-06 مايو 2025-02:29ص

المؤامرة ليست نظرية بل حقيقة

الأحد - 04 يونيو 2023 - الساعة 05:42 م
أمذيب صالح احمد

بقلم: أمذيب صالح احمد
- ارشيف الكاتب


في خضم الصخب الإعلامي الغربي والعربي الموالي له تتوالى علينا الأكاذيب والاراجيف والتمويهات الدعائية في شكل مصطلحات مزيفة وعبارات معلبة مكررة لغسل عقولنا وتلطيخها بأفكار شوهاء لتكون دليلا سيئا لنا في معرفة الحقائق بطريقة خاطئة حتى نتقبل سياساتهم ومعاملاتهم الاستعلائية التخريبية المحطمة لقدراتنا والمعيقة لتطورنا والمستغلة لثرواتنا والمفرقة بيننا. ومن بين هذه العبارات المزيفة للحقائق (نظرية المؤامرة).

فالمتآمرون وعملائهم وانصارهم من ذوي المصالح الخاصة يصفون المؤامرة بانها مجرد نظرية خيالية من اوهامنا لكي يغطوا على افعالهم الشنيعة ويدحضوا أعمالهم القبيحة واعتداءاتهم السافرة على مصالحنا وحقوقنا, ويوهموا الاخرين بأنه لا توجد مؤامرات ودسائس في هذا العالم وان حسن النية والقصد هو الدافع والمحرك لكافة السياسات الاجرامية بين الدول المختلفة في العالم.  كما أن العلاقات المنحرفة والمختلة فيما بين الأمم والشعوب وفيما بين التكوينات الاجتماعية في كل بلد تحدث بفعل حسن النية وسلامة القصد ولم تتحرك بفعل مؤامرات خارجية وداخلية خدمة لمصالح جهات معينة.

ان الصراع على المصالح والمنافع بين الأقوياء وبين الضعفاء وفيما بين الكبار والصغار والصراع على المصالح والمنافع بين الأشرار والأخيار وفيما بين الأمناء والخونة وفيما بين المترفين الجشعين والفقراء البائسين والصراع على المصالح والمنافع بين أهل الحق وأصحاب الباطل منذ الخليقة لم يتوقف حتى الآن.

ان الصراع على المصالح والمنافع من مختلف القوى يتبدى في أشكال مختلفة ومظاهر ملونة من التآمر والمؤامرات, فبعضها قد يكون ظاهرا ومستترا وبعضها قد يكون عنيفا او ناعما, وبعضها قد يكون قصير المدى او طويل المدى, وبعضها قد يكون كبيرا جدا او صغيرا حسب الوسائل والظروف والامكانيات لتحقيق المصلحة او المنفعة بصورة مشروعة او غير مشروعة.

والمؤامرات أنواع واشكال مختلفة, فقد تقع بين الأقارب في العائلة الواحدة وقد تقع بين الافراد من ذوي المصالح المشتركة او الاعمال المتداخلة وقد تكون بين جماعات او شركات ذات مصالح متضاربة وقد تحدث بين طوائف عرقية او مذهبية أو بين طبقات اجتماعية. لكن أكثر المؤامرات شيوعا واشتهارا هو ما يحدث بين الدول في العالم وخاصة بين الدول الاستكبارية المستغلة (بكسر الغين) والدول المستضعفة المستغلة (بفتح العين).

والمؤامرات تختلف أساليبها باختلاف أهدافها ومقاصدها فقد تكون إعلامية او فكرية او عقائدية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او عسكرية او بعضها او جميعها حسب حجم المؤامرة ونوعها ولكنها تقوم أساسا على الكذب والافتراء والتزوير والتلفيق والدس والاشاعة والأراجيف والنميمة والفتن والكيد والمكر والخداع والتمويه والنصب والاحتيال والموبقات مما يلائم كل حالة من أحوال التآمر وبما يسهل تنفيذها وتحقيق مآربها.

وقد كان العرب والمسلمون فريسة لكثير من المؤامرات على وحدتهم وأوطانهم ومعتقداتهم ولغاتهم وثرواتهم ومجتمعاتهم وعلاقاتهم وسياساتهم في التحرر والتنمية.  فقائمة المؤامرات ضد العرب والمسلمين طويلة من الكبائر والصغائر منذ بدأت حركة الاستعمار الأوروبي قبل عدة قرون, فلم يسلم قطر عربي او إسلامي واحد من مؤامرة او اكثر تتعلق بلغته او بعقيدته او بطوائفه الاجتماعية او بثرواته او باقتصاده او بعلاقاته بجيرانه او بأراضيه وحدودها او بعلاقاته الدولية وسياساته. غير أننا هنا سنركز على احدى المؤامرات الكبرى التي أنتجت مؤامرة كبرى ثانية على العرب لتؤدي الثانية الى مؤامرة ثالثة اكبر. فالمؤامرات الكبرى الأولى بدأت في القرن التاسع عشر على الخلافة العثمانية وقيادتها للعالم الإسلامي حينما بدأ الفساد والانحراف يستشري فيها مع ظهور النزعة القومية التركية والاستبداد في الحكم والترف في الطبقة الحاكمة فتامرت الدول الأوربية كقوى صليبية  على زرع فكرة العلمانية وعزل الإسلام عن الخلافة أولا ثم الغاء الإسلام كليا من الحياة التركية. وبما ان البلاد العربية كانت موحده تحت الخلافة العثمانية فان سقوط الخلافة العثمانية سيعني سقوط البلاد العربية تحت الهيمنة الاوربية وهو ما بدأ في الجزائر وبعض أطراف جزيرة العرب فلما نفذت مؤامرة إسقاط الخلافة العثمانية جاءت المؤامرة الثانية وهي احتلال البلاد العربية وتقسيمها الى اقطار عديدة كغنائم بين الدول الأوربية بمقتضى اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا ورسم حدود وخرائط مصطنعة لأقطار عديدة صغيرة حتى يسهل التحكم بها واحياء النزعات القبلية والمناطقية لتكون عصبيات وقوميات مستحدثة على حساب الإسلام بالإضافة الى ادخال المفاهيم والثقافات الغربية مع إزاحة مستمرة للقيم والشريعة الإسلامية من الحكم والإدارة والقضاء والحياة الاجتماعية. فلما نفذت المؤامرة الثانية سهل تنفيذ المؤامرة الثالثة وهي زرع كيان صهيوني لليهود بين المشرق العربي والمغرب العربي في فلسطين وذلك من خلال وعد بلفور والتهجير التدريجي لليهود الى فلسطين التي كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني فتم إنشاء دولة إسرائيل على حساب عرب فلسطين وارضهم قائلين أنهم يعطون أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض بحيث أصبحت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب والشغل الشاغل للمسلمين.

ولكي نفهم عقلية الأوروبيين في التآمر لابد من استعراض أفكار شخصية بارزة تعمل في السياسة الاستعمارية للاستكبار الأوربي مثل ونستون تشرشل الذي أصبح رئيس وزراء بريطانيا ابان الحرب العالمية الثانية من أربعينيات القرن العشرين بعد أن كان وزيرا للمستعمرات البريطانية في عام 1921 وشارك في صناعة المؤامرات الخارجية قبل وعد بلفور في عام 1917. ان هذا الاستعماري العتيق كان يفتخر بميوله الصهيونية وتعاطفه المصطنع مع اليهود ضد العرب ويتباهى بعنصريته الاستعلائية فيقول في إحدى المرات دفاعا عن الجنس الأبيض في احتلالها واستئصالها للشعوب الأصلية في أمريكا وأستراليا ما يلي:

“I do not admit for instance, that a great wrong has been done to the Red Indians of America or the black people of Australia. I do not admit that a wrong has been done to these people by the fact that a stronger race, a higher-grade race, a more worldly wise race to put it in that way, has come and taken their place”.

وهو ما ترجمته:

"لا أقر، ولو للحظة واحدة، بأن ظلما قد وقع على الهنود الحمر في أمريكا أو على أهل استراليا السود، فأنا لا أقر بأن ظلما قد وقع على هذه الشعوب، انطلاقا من حقيقة أن جنسا اقوى بل جنس أرقى درجة أو بعبارة أخرى جنس أكثر حكمة بالدنيا، قد جاء ليحل محلهما".

وهو يقول أيضا في صالح اليهود ضد عرب فلسطين انطلاقا من السياسة الاستعمارية البريطانية التي تنص على إعطاء ارض بلا شعب الى شعب بلا ارض، معتبرين عرب فلسطين لا قيمة لهم:

"وأكثر من ذلك فانه حق واضح لليهود المشتتين في العالم أن يكون لهم ركيزة وطنية ووطن قومي حيث يقدر لبعضهم أن يتوحد فيه. فأين يمكن ان يكون هذا الوطن ان لم يكن في فلسطين التي ارتبطوا بها ارتباطا عميقا وحميميا لأكثر من ثلاثة آلاف عام".

ولم يكتف الغرب الصليبي بمؤامراته الثلاث الكبرى على البلاد العربية والإسلام بل دبر عشرات المؤامرات الفرعية والجزئية التي تناسلت من كل مؤامرة من الثلاث الكبرى التي نفذها من اسقاط للخلافة الإسلامية وتقسيم للبلاد العربية وزراعة لكيان صهيوني في قلب البلاد العربية حتى تتحول المؤامرات الثلاث الى سرطانات يصعب علاجها على المدى الطويل وتصبح عائقا لنهوض العرب والمسلمين.

(أ‌) ففيما يتعلق بالمؤامرة الكبرى بإسقاط الخلافة الإسلامية والقضاء على الإسلام فتنفذ المؤامرات الفرعية التالية:

إزاحة الشريعة الإسلامية من الحكم والإدارة والقضاء باستخدام سلاح العلمانية (بفتح العين) بمعنى الدنيوية واحلال القيم والعقائد والمفاهيم والتقاليد الاوربية في الحكم والإدارة والقضاء محل شريعة الإسلام وقيمه وتقاليده في جميع البلدان العربية والإسلامية لمسخ الهوية الوطنية وجعل الامة العربية والإسلامية عجينة طيعة بيد الهيمنة الغربية والثقافة الأوروبية.

محاربة اللغة العربية الفصيحة لغة القرآن والسنة وكتب التراث العربي والإسلامي من خلال محاولة إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي في مصر ولبنان والعراق غير أنهم نجحوا في تركيا واندونيسيا وغرب افريقيا وصوماليا. كما استطاعوا تعطيل تعليم اللغة العربية بواسطة القران وإدخال مناهج لاتينية في تعليم العربية تعتمد على الكلمة بدلا من اعتماد الحرف المشكل مع انتشار للتعليم الأساسي باللغات الأجنبية ناهيك عن تعليم العلوم باللغات الأجنبية. كما عملوا على تشجيع العاميات واستخدامها في وسائل الاعلام المختلفة لتكريس التخلف اللغوي والفكري. كما تعرضت دول المغرب العربي للفرنسة اللغوية ومنع تعليم اللغة العربية ومحاصرة دخول المطبوعات العربية فيها وفي جبوتي.

محاربة القران والسنة بالطعن فيهما والافتراء عليهما وطمسهما بالحرق كما حدث لصحيح البخاري الذي أحرقت ثلاث نسخ منه ولم يتمكنوا من الرابعة التي نسخ منها الكتاب فحفظت بها السنة كما يقول الادريسي, احد علماء المغرب العربي وإصدار كتب تشوه حياة الرسول ورسوم تسيء الى شخصيته, واختلاق مذاهب جديدة يدعي أصحابها النبوة منكرين نبي الإسلام كخاتم (اخر الأنبياء) والتهجم على علماء المسلمين والاقلال من قدرهم بالسخرية منهم, وتشويه المصطلحات الإسلامية بتحويرها والصاق المفاهيم الأجنبية والمسيحية عليها.

محاربة الحركات الإسلامية وتشويه صورتها وأعمالها وقياداتها وتجريدها من سياسة الدنيا لمنع استعادة الشريعة الإسلامية في الحكم والقضاء بل وحتى وصفها بالارهابية. تشجيع ودعم تكوين الأحزاب العلمانية وفق المنظور الغربي المعادي او المجافي للاسلام. إنشاء وتفريخ الحركات الاجرامية باسم الإسلام لوصم الإسلام بالإرهاب. اثارة الفتن السياسية والاجتماعية والدينية ضد الأقليات المسلمة في الدول غير المسلمة. اثارة الفتن والخلافات بين المذاهب والفرق والملل الإسلامية المختلفه في البلدان الاسلاميه. التامر بمختلف الوسائل بما فيها العنف المسلح ضد كل حركة إسلامية تصل الى الحكم في البلاد العربية والإسلامية.

(ب‌) اما فيما يتعلق بالمؤامرة الكبرى بالتقسيم والتجزئة للبلاد العربية والإسلامية فتنفذ المؤامرات الفرعية التالية:

اقتطاع أقاليم من البلاد العربية وضمها لدول الجوار بتدبير ورعاية الدول الاستعمارية. فبريطانيا تآمرت مع حكام إيران على اقتطاع إقليم الاحواز بعد استقلال العراق لاحتلاله وضمه بالقوة الى الأراضي الإيرانية كما تآمرت فرنسا مع الدولة التركية عند خروجها من الشام على احتلال إقليم الإسكندرون بالقوة وضمه الى أراضي الدولة التركية. كما سلمت بريطانيا التي كانت وصية على الصومال بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية إقليم اوجادين الصومالي للدولة الاثيوبية وضمت إقليما اخر في غرب صوماليا لدولة كينيا التي كانت مستعمره بريطانية. وعند استقلال دولة الامارات قامت بريطانيا بتسليم ثلاث جزر إماراتية للدولة الإيرانية لتكون جزءا من مملكة شاه ايران وحتى يعمق النزعات القطرية جعل في كثير من الدول العربية مناطق حدودية قابلة للخلاف والشقاق حول تبعيتها بحيث تكون مصدر تعكير للعلاقات بين الأقطار العربية وأشواك على طريق الوحدة بينها.

تهيئة الظروف والأجواء المناسبة لنشوء الحركات الانفصالية والنزعات الإقليمية والطائفية والمناطقية والقبلية والانعزالية في البلاد العربية والإسلامية. قيام الفرنسيين قبيل خروجهم من الشام بفصل لبنان عنه وإقامة دولة بدستور طائفي عرقي أصبح نموذجا للمؤامرات الامريكية ضمن سياسات (الفوضى الخلاقة) في البلاد العربية. قيام العسكر في سوريا في أوائل الستينيات من القرن الماضي بفصل سوريا عن اول وحدة عربية بين قطرين قامت بين ديكتاتورية العسكر في مصر وديموقراطية القوميين في سوريا. في أوائل التسعينيات من القرن الماضي انشق غرب باكستان الذي يعرف اليوم ببنغلاديش عن شرق باكستان التي هي باكستان اليوم بعد أن أقامها الانجليز بين اقليمين تفصلهما مساحات شاسعة من الأراضي الهندية المعادية. في أوائل القرن الواحد والعشرين استطاعت حركة انفصالية في اندونيسيا ان تفصل تيمور الشرقية عن غربها وتستقل عن اندونيسيا بدعم من الدول الاستعمارية الغربية التي كانت استراليا رأس حربه فيها.

وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين انفصل جنوب السودان عن شمال السودان بعد أن عزل الاستعمار الإنجليزي جنوبه عن شماله إداريا وثقافيا واجتماعيا وجعله مسرحا للحركات التبشيرية المسيحية.

اثارة الشقاق والخلاف والنزاع بين الأقطار العربية وداخلها من خلال التدخلات المباشرة وغير المباشرة بمختلف الوسائل المادية وغير المادية, ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي تدخلت مصر عسكريا في اليمن الشمالي لصالح الثورة اليمنية بطلب منها بقرار من جمال عبدالناصر الذي كان مفوضا بالتفرد في اتخاذ القرارات للثورة المصرية العسكرية مما اثار حفيظة المملكة العربية السعودية التي وقفت الى جانب القوى الملكية المناهضة للثورة الجمهورية بينما كانت بريطانيا محتلة لجنوب اليمن تتربص بالثورة الجمهورية من خلال تقديم السلاح والمال والخبرة للقوى الملكية. وفي أوائل السبعينيات من القرن الماضي قام اليمن الجنوبي بتصدير الثورة الى سلطنة عمان بتبنيه لجبهة تحرير عمان والخليج العربي ودعمها بالمال والسلاح والاعلام مما أدى الى تدخل كبير للجيش الإيراني وقوات محدودة من الجيش الإنجليزي عدة سنوات وحين انسحبت إسبانيا من العيون ووادي الذهب في الصحراء الغربية التي كانت مستعمرة لها لم تسلمها إداريا لأي جهة رسمية بل تركتها لتكون عرضة للنزاع والخلاف بين المغرب وموريتانيا والجزائر، وفي منتصف السبعينيات زحفت المغرب عليها وضمتها إلى المغرب كجزء من أراضيها.

اما في أوائل النصف الثاني من السبعينيات من القرن الماضي فقد دخل الجيش السوري الى لبنان لوقف النزاع المسلح الذي تفجر بين الكتائب اللبنانية وبين الفلسطينيين في احد المخيمات الفلسطينية ومكثت أكثر من ثلاثة عقود تعرض فيها الفلسطينيون للصراع والمذابح بعد ان قامت إسرائيل بغزو لبنان فحوصرت المقاومة المسلحة الفلسطينية وقيادتها واجبرت على الخروج من لبنان. وحينما كانت إيطاليا محتلة لليبيا قبل الحرب العالمية الثانية وكانت فرنسا محتلة تشاد المجاورة لها اتفقت الدولتان الاستعماريتان على ان إقليم اوزو في شمال تشاد يكون تابعا لليبيا ووقعتا اتفاقية بالأحرف الأولى فعرضت الاتفاقية على البرلمان الفرنسي الذي أقرها وعلق عرضها في البرلمان الإيطالي لتكون كمينا للفتنة بين البلدين ففي أواخر السبعينات من القرن العشرين أرسل القذافي جيشا لضم الإقليم فحدثت حرب بين تشاد وليبيا هزم فيها الجيش الليبي شر هزيمة واسر قائده خليفة حفتر مع المئات من جنوده وضباطه. وفي أوائل التسعينيات قام الجيش العراقي بغزو الكويت واحتلاله بعد اختلاف بينهما بينما كانت أمريكا قد أكملت مناوراتها العسكرية في البلاد العربية استعدادا لحرب قادمة فقامت ثلاثون دولة عربية واجنبية بقيادة أمريكا بتحرير الكويت وضرب العراق ومحاصرته جوا فانسحبت القوات العراقية من الكويت وبعض المناطق السعودية التي تغلغلت فيها.

استغلال القوى الاستعمارية لموجات الربيع العربية وتحريفها نحو سياسة الفوضى الخلاقة التي أعلنت أمريكا تنفيذها في العراق من تحطيم لقوام الدولة وبنائها على أسس من الفساد والشرذمة الطائفية والإقليمية والمناطقية والانعزالية والقبلية ومحاربة الحركات الإسلامية تحت غطاء الإرهاب ومقاومة الوحدة العربية جزئيا وكليا بحيث يحدث فيها توازن مهلهل لا يشعر أحد فيه بالقوة او القدرة للتحرك المشرف. فليبيا واليمن تسيران في طريق الفوضى الخلاقة كما هو مخطط لهما. اما مصر وتونس وسوريا فان التخريب الاقتصادي سيستكمل مسيرتها نحو فوضى خلاقة من طراز اخر.

غير ان السودان قد وقعت في فخ الفوضى الخلاقة. اما لبنان فقد أقيمت على أسس من الفوضى الخلاقة غير انها تشتد مع كل مؤامرة جديدة. ولا نستبعد أن تمتد هذه الفوضى الخلاقة الى بعض البلدان العربية بفعل المصالح الامريكية الضاغطة, فحروب النفط الامبريالية لم تتوقف ضد العرب والمسلمين.

(ج) أما فيما يتعلق بالمؤامرة الكبرى بزرع الكيان الصهيوني وتثبيته بين العرب فتنفذ منذ قيام إسرائيل عام 1948 المؤامرات الفرعية التالية:

بدأ احتياج أمريكا لاستيراد النفط الرخيص من الشرق الأوسط مع قيام دولة إسرائيل فتولت القيادة والهيمنة الاستعمارية فيه بدلا من بريطانيا وبدأ تدبير الانقلابات العسكرية لامتصاص غضب الجيوش العربية وضباطها من هزيمة حرب 48 المذلة بإلقاء اللوم على تقصير وفساد الحكومات المدنية.

لكي تشعر إسرائيل بالأمن والحماية وإظهارها أمام العرب كقوة ضاربة فلابد من ان يكون ذلك ضد مصر التي تمثل القيادة والريادة العربية. فجعلوها شريكة للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 واستطاعت قواتها أن تكتسح غزة وسيناء وتطل بجنودها على الضفة الشرقية لقناة السويس.

بدأت الانقلابات العسكرية في الدول المحيطة بإسرائيل كسوريا أولا ثم مصر والعراق والسودان واليمن وليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا وانشق العالم العربي الى شقين، شق العسكر يصف نفسه بالثوري والتقدمي وشق المحافظين الذي يوصف بالرجعي والمتخلف وهو ما أدى الى ضعف وحدة العرب امام إسرائيل ودفع المحافظين الى مزيد من الخنوع والرضوخ للسياسات الغربية.

ان أمريكا بحكم تجاربها في أمريكا اللاتينية تعلم ان حكم العسكر سيؤدي الى الطغيان والاستبداد والى اغراق العسكر في الفساد وقتل الروح العسكرية فيهم والتحول الى قهر الشعوب والثرثرة الإعلامية حول التقدم والتنمية والانشغال بمسائل الحكم والإدارة حتى تتلاشى من ذاكرتهم خطورة إسرائيل على المدى الطويل.

وفي نفس الوقت فان الشعوب العربية سيتحول اهتمامها الى مواجهة مشاكل الاستبداد والطغيان والقهر الاجتماعي لحكم العسكر.

يعرف الغرب الاستعماري ان ثقافة الضباط الانقلابيين هي غربية علمانية في إطار من العصبية القومية وضعف في هويتها الإسلامية لأن ما يخافه الغرب هو الإسلام الذي يشحن المؤمن به في المقاومة دفاعا عن كرامته ووطنه وعرضه وماله.

حينما استطاعت القيادة المصرية بتأثيراتها المختلفة اكتساب ثقة الامة العربية فيها والتفافها حولها احست بقدرتها في مواجهة إسرائيل كان لابد من اشعار إسرائيل بالقوة والأمن فدفعت الى ضربة استباقية ضد الطيران المصري في حرب حزيران 1967 مما أفقد الجيش المصري الحماية اللازمة فوقع صريعا للقوات الإسرائيلية في سيناء التي سيطرت عليها حتى قناة السويس كما سيطرت على الجولان السورية والضفة الغربية والقدس الشرقية التي كانت تحت النفوذ الأردني. وحققت بذلك هزيمة نكراء للعرب ونكسة كبرى وطمأنة إسرائيل على وجودها وتثبيته واحباط امال العرب في ازالتها واسترداد حقوقهم.

ولما تملك اليأس حكم العسكر وأصبحوا أكثر قابلية للجنوح للسلم اذا استطاعوا تحقيق نصر معين يمحو عار الهزائم السابقة ويستردون كرامتهم وتجبر خواطرهم فقد رؤى ان تجري حرب محدودة لتحقيق ذلك يحصلون بها على سيناء منقوصة السيادة مع فتح قناة السويس.

ففي أكتوبر من عام 1973 قام الجيش المصري بضربة استباقية للقوات الإسرائيلية استطاع من خلال اختراق خط بارليف وعبور الضفة الشرقية لقناة السويس والتغلغل في سيناء نحو ثلاثين كيلومتر, غير ان تدخل القيادة السياسة في الخطط العسكرية أتاح للقوات الإسرائيلية التغلغل غرب قناة السويس والسيطرة على الضفة الغربية ما بين الإسماعيلية والسويس والتمركز شرق القاهرة على بعد مئة كيلو ومحاصرة الجيش الثاني في سيناء أمام مدينة السويس مما جعل الجيشان متداخلان عسكريا محدثا نوعا من التوازن العسكري يؤهلهما للتفاوض بين طرفين متكافئين لا غالب ولا مغلوب فيهما. وهو ما تولاه وزير خارجية أمريكا هنري كسينجر الصهيوني بسياسة الخطوة خطوة.

فلما رتبت الأمور جاءت اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ثم بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل ثم لحقتها اتفاقيات أوسلو بعد ان أعلنت فيها مصر على لسان السادات بأنه لن تكون هناك حروب بين العرب وإسرائيل بعد اليوم مشيرا الى تخلي مصر عن تحرير فلسطين وقيادة المعركة تاركا استرداد العلاقة الاستراتيجية ببين الشام ومصر لأجيال المستقبل.

بعد هزيمة العرب في حزيران 1967 انطلقت ابواق الاعلام الغربي والعربي الموالي له بتضخيم قوة إسرائيل وجيشها والتركيز على تطورها وقدراتها إرهابا وتخذيلا للعرب حتى يرتدعوا عن محاولة النيل منها او ازالتها من المنطقة. كما أن أحد كبار الإعلاميين العرب الذي عرف بميوله للأمريكان كان يحاضر ويتحدث كثيرا من الاستراتيجيات الامريكية وما تمتلكه إسرائيل من قوة ورؤوس نووية قدرها بمئتي رأس نووي لأقناع العرب بالبحث عن سبل أخرى وتخذيلهم من الكفاح المسلح ضد إسرائيل دون ان يعلن عن ذلك. كما ان الاوربيون والامريكان كثفوا علاقاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع إسرائيل لتلميعها دوليا كبلد متحضر وديموقراطي مقابل العرب الذين لا يرونهم الا في المحلات التجارية والنوادي الليلية ينفقون أموالهم وأوقاتهم.

بعد اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وبين الفلسطينيين وإسرائيل بدأت العلاقات والاتصالات الخفية بين بعض الدول العربية الواقعة تحت النفوذ الغربي وبين إسرائيل. فلما زادت حركة التطبيع بإقامة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين إسرائيل ومصر وتطورت المفاهمات بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل بموجب اتفاقيات أوسلو توسع الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وأعلنت إسرائيل تملكها للجولان السورية بدعم امريكي وعلت أصوات تشوه القضية الفلسطينية وأخرى تنادي بالتطبيع بل وصل بالبعض الاخر الى وصم حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية بالإرهاب كما ان القيادة الفلسطينية تورطت بتدريب أمن مشترك مع إسرائيل هدفه حماية امن إسرائيل من الكفاح المسلح للفلسطينيين. ان التطبيع لا يكون الا بين أطراف طبيعية وليس مع دولة احتلالية تتكون من استعماريين اوربيين تحت مظلة الصهيونية قامت باستئصال شعب عربي ونهب أراضيه ومساكنه وقتله وتشريده وإقامة نظام للفصل العنصري ويهودة ارض عربية ومدمره للتاريخ العربي والإسلامي ومدنسة لمقدسات العرب والمسلمين ومحطمة لاستراتيجية الوحدة العربية على المدى الطويل.

وأخيرا قد يقول قائل أين الشعوب من مقاومة هذه المؤامرات. لقد حاولت مقاومتها ولكنها لم تنجح لأسباب عديدة أولها انها في حالة انحطاط حضاري وضعف كبير بالنسبة للغرب الاستعماري وثانيها انها حاولت المقاومة بأساليب العلمانية الدنيوية التي غرسها الغرب فيها ولم تعتمد على هويتها الحضارية الإسلامية وارثها التاريخي العظيم كما أن الغرب استطاع أن يقيدها بشبكة من العلاقات والمنظمات والنظم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية حتى تجد صعوبة في الانفلات منها بعد أن جعل التعليم والإعلام يسيران في ركاب الثقافة الأوروبية.