آخر تحديث :الثلاثاء-06 مايو 2025-02:29ص

علم اللغة وليس‏ علم اللسانيات

الخميس - 05 أكتوبر 2023 - الساعة 11:06 ص
أمذيب صالح احمد

بقلم: أمذيب صالح احمد
- ارشيف الكاتب


قبل أن نعقد مقارنة بين دلالات المفاهيم للمصطلحات التي يتداولها الناس حتى تتأكد من مناسبتها للاستعمال ‏دقة وصحة علينا أن نحدد مجالات المعنى الذي يقصده المصطلح المتداول في علم اللغة أو علم اللسانيات كما يروق للبعض ‏يختص بدراسة المجالات التالية في اللغة وهي أ) علم الأصوات و ووظائفها ب)علم الصرف ج) علم النحو (التراكيب) د) علم المعنى ه) المعجم (الثروة اللفظية- مشكلاتها و تحليلاتها) و) علم الأسلوب. ‏وهذا التعريف الحالي ورد في كتاب الدكتور كمال بشر بعنوان "علم الأصوات" الصادر عن دار غريب عام 2000 ميلادي وهو اخر ما بلغه تطور تعريفات اللغة حتى اليوم. ويعتبر العرب روادا في مجال علم اللغة بالنسبة للأوروبيين. فقد ظهر في القرن الثاني الهجري عالم فذ هو الخليل بن احمد الفراهيدي الذي خاض في معظم مجالات علم اللغة وخاصة في علم الاصوات واستطاع ان يستخرج الاوزان الموسيقية للشعر العربي في خمسة عشر نغما سماها بحور الشعر العربي مؤسسا بذلك علم العروض الحالي واستكمل البحر الاخير عالم اخر بعده، كما الف اول قاموس في اللغة العربية رتبت كلماته حسب المدارج الصوتية للحروف العربية في جهاز النطق بادئا بحرف العين من الحنجرة ومنتهيا بالحروف الشفوية والهوائيه.

كما اشتغل بمواضيع علم اللغه الاخرى من نحو وصرف ومعنى ومفردات لغوية لكنه لم يطلق وصف "علم" معين على هذه المجالات اللغوية. وفي القرن الرابع الهجري حينما كثر علماء العربية استخدم ابن جني مصطلح "الخصائص" في وصف كتابه عن علم اللغة، أما ابن فارس فقد سمى كتابه (الصحابي في فقه اللغة العربية) وكلمة فقه تدل على العلم بالشيء وفهمه وهي مرادفة لكلمة العلم ورغم استخدامها عند البعض حتى منتصف القرن العشرين الا ان دلالتها قد انصرفت مع الزمن الى  مفهوم التشريع الاسلامي" بدلا من الفقه.ولذلك استخدم مصطلح العلم بعد ان عاد كثير من الدارسين العرب لغة في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين حاملين مصطلحات علم اللسانيات احيانا وعلم اللغة في احيان اخرى.

ان معظم الذين يفضلون استخدام مصطلح "علم اللسانيات" ينطلقون من تأثرهم بالدراسات الأوروبية وخاصة الفرنسية لان كلمة اللغة في معظم اللغات الأوروبية الرئيسية مشتقة من كلمة اللسان كما ان العالم الشهير في هذا العلم هو السويسري فرديناد سوسيير الذي توسع في ميادين هذا العلم بالإضافة إلى ان الحضارة الأوروبية تؤكد دائما على مركزيتها بالنسبة لحضارات العالم الأخرى التي تتجاهلها دائما وخاصة الحضارة الإسلامية. اما السبب الثاني لاستخدام مصطلح اللسانيات عند بعض علماء اللغة العرب وخاصة اولئك الذين لهم خلفية ثقافية عميقة بالحضارة الإسلامية كرئيس مجمع اللغة العربية الراحل في الجزائر الدكتور عبد الرحمن حاج صالح فإنه يستند الى التراث الاسلامي والى تأثره بالمدرسة الفرنسية، فهو قد تخصص في اللغة العربية من جامعة الأزهر الشريف وأكمل علومه اللغوية في جامعة السوربون الفرنسية.

فكلمه لسان بمعنى لغه قد وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم نقتبس بعضا منها للدلالة على ذلك:

- وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ (النحل16/103)

- فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ (الدخان44/58)

- وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ (الروم30/22)

-  وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُم(ابراهيم14/4)

- وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ(ال عمران 3/78)

اما معاجم اللغه العربيه فكلها تجمع على ان اللسان يعني اللغه والمِقول (أداة القول) واحيانا يعني به مجازا الرساله او الخبر او الثناء. اما ابن منظور فقد اسمى قاموسه الكبير" لسان العرب". ان كل هذه الشواهد بالإضافة الى ما سبق جعلت بعض علماء العربية يفضلون استخدام مصطلح "علم اللسانيات" بدلا من "علم اللغه". فالمعروف ان القران الكريم والشعر العربي من اوثق مصادر اللغة العربية.

ان اللغات الحية تكون دائما على صورتين منطوقه ومكتوبه. وقد قضت البشرية آلاف السنين وهي تستخدم اللغه المنطوقه وتطورها تدريجيا بالكلام حتى استطاعت بعد مدة طويلة ان تحول اللغه المنطوقه الى رموز كتابية، غير ان اللغات لم تستقر كثيرا الا بعد ان تطورت كتابة اللغات على الورق ثم طباعتها اليا حين اصبح ممكنا تدوين العلوم الانسانية. فمصطلح العلم لم يستخدم بدقة الا بعد ان تطورت اللغة المكتوبة على الورق في الكتابة على الألواح والاحجار كانت محدودة التعبير والاستعمال. ولهذا فان الانسان كان يستعمل كلمة اللسان كدليل على اللغه المنطوقه التي ظل آلاف السنين يتكلم بها وحين نزل القرآن الكريم لم يكن التدوين الورقي موجودا وكل الآيات التي ذكرت فيها كلمة اللسان إنما كانت تدل على اللغه المنطوقه فالرسول الكريم(صلعم) تلقى القرآن سماعا من جبريل، كما هو الحال بالنسبة لتلقي الشعر الجاهلي و الاسلامي سماعا قبل بدء التدوين الورقي.

وعليه فانه يمكن ان يطلق مصطلح "علم اللسانيات" على دراسة اللغات التي لم تكتب بعد عند بعض الشعوب او على دراسة اللهجات الشفوية وتركيباتها واصواتها لان كلمة "اللغة" قد انصرف مدلولها كلية الى معنى اللغة المكتوبة والمنطوقة في ان واحد. اللغة مشتقة من لغة ويلغو ولغو وهي لغلغة الأصوات الصادرة عن جهاز النطق كاملا الذي يتكون من الشفاه والاسنان والحنك واللهاة واللسان والحلق ولسان المزمار والاوتار الصوتية والحنجرة والقصبة الهوائية. ورغم ان مشاركة كل من هذه الاعضاء لجهاز النطق في اصوات بعض حروف الابجديه الا ان اللسان يعتبر "المايسترو" بالنسبة لأعضاء جهاز النطق فبدونه لا يمكن لاي عضو ان ينطق حرفا واحدا دون ان يشاركه اللسان بحركة معينة لأداء صوت الحرف ولو حتى بالسكون.

ان علم اللغه يشمل حاليا علم الأصوات وعلم الصرف وعلم النحو وعلم المعاني وعلم المفردات وعلم الأسلوب. وبما ان العلم تراكمي فان البشرية لم تستطع حفظ ما اكتسبته في تاريخها الطويل من معارف وخبرات حينما كانت اللغة شفوية (لسانية) غير قابلة للتدوين و قبل اختراع الكتابة. فمصطلح "العلم" لم يثبت استخدامه الا بعد الكتابة التي منحته البقاء والحياة. وعليه فإن اللغة المكتوبة وليس اللسان المنطوق هو الذي يتصف بالعلم. فاذا كان علم الاصوات يمكن ان يدرس بلغه منطوقه و لغة مكتوبة الا ان علوم الصرف والنحو والمعاني والمفردات والاسلوب تحتاج الى لغه مكتوبه حتى يستطيع الانسان استيعابها والتوسع فيها ايجابا وسلبا.

إن مجالات علوم اللغة في الوقت الحاضر قد اتسعت رقعتها بحيث أصبحت تشمل علم اللغة التطبيقي وعلم اللغة التاريخي وعلم اللغه الرياضي وعلم اللغة التراكيبي وعلم اللغة التنظيمي(systemic)

وعلم اللغة النصي (المتني) وعلم اللغة النظري ثم هناك علم النفس اللغوي وعلم الجغرافيا اللغوي وعلم الاجتماع اللغوي وعلم الاعراق اللغوي وغيرها من الابواب التي تفتح كل يوم وهو ما لا تستطيع اللغه المنطوقه لسانيا ان تراكمه وتحفظه كاللغة المكتوبة فاذا كان جهاز النطق في الانسان للغته الشفوية هو اكثر من اللسان فان لغة الانسان المكتوبة والشفوية ليست لسانا بل هي فكر وذاكره ووعيا وهوية وخبرة وتاريخ بل بها تتحدد انسانيته وتميزه عن الحيوانات الاخرى. فاللغة لم تعد اصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم بل هي الوريث الشرعي للتجارب البشرية وخليفة الانسان على الأرض حينما تنقرض اجيال وتخلفها اجيال اخرى.

لقد ادرك علماء العربية الأقدمون والمحدثون ان علم اللغة هو المصطلح المناسب وليس علم اللسان. فالدكتور علي عبد الواحد وافي والدكتور ابراهيم انيس اسميا كتابيهما "بعلم اللغة" في القرن العشرين بينما سمى الأستاذ محمد المبارك كتابه "فقه اللغة وخصائص العربية" اما الاقدمون فإنهم استخدموا مصطلحات مختلفة مشابهه غير أنهم لم يذكروا مصطلحا له علاقة بكلمة اللسان.