آخر تحديث :الجمعة-26 ديسمبر 2025-12:54ص

في أطـول تغريبة تـتـواصـل اليمني تائه

الثلاثاء - 08 أكتوبر 2024 - الساعة 04:47 م
علوي شملان

بقلم: علوي شملان
- ارشيف الكاتب


انا من بلاد القات مأساتي تضج بها الحقب .. هذا الواقع الان وما اتوقع انه داخل نفس كل يمني او قريب من لسانه او لسان حاله ولم يعد شطر بيت من الشعر جادت به قريحة الدكتور المقالح قبل نصف قرن.

انها المأساة في ذروتها الان .. على اصقاع الارض وجهاتها وما بين دولها وعواصمها يتوزع ويهيم الان ملايين اليمنيين في تواصل لم ينقطع لأطول تغريبه بشريه في التاريخ منذ ان قالو (ربنا باعد بين اسفارنا ) فتمزقوا كل ممزق.

عمر بن مزيقيا كان اكبر المترفين يملك جنات على الارض قرب جدار سد مارب ويملك مالا يمكن تخيله من الثراء الى درجة انه كان يلبس كل يوم لبس جديد ويمزقه في اليوم الاخر ليلبس غيره، كان في طليعة من ارتحلوا في بداية رحلة التيه، بل قيل انه كان اول الهاربين التائهين حين اخبره العراف بقرب خراب السد .... وفي نفس تاك الفترة التاريخية او قريباً منها ،لم يحتمل عبد يغوث كبير مذحج قهقهة عجوز عبشمية وسخريتها من رؤيته تائهـاً اسيراً في هضاب نجد ، فتخلص من نفسه بتقطيع اوردته وكانت الفاجعة انه لم يكن الوحيد اوالاول، وقيل انه قال قبل ان يموت: (وتضحك مني شيخة عبشمية ××× كان لم ترى قبلي اسيراً يمانيا ) ولافرق ان قال هذا كبير مذحج ، او انه منحول عليه الا ان هذا هو الواقع يومها وحتى اللحظة.

وضاح اليمن كان اشهر التائهين ولم اصدق انه ارتحل الى الشام فقط كعاشق ومعشوق (لام البنين زوجة الوليد بن عبدالملك ) حتى وان ثبت انه مات مدفوناً في صندوقها الذي اخفته فيه .. الاقرب الى العقـل انه ارتحل في سياق مأساة تغريبة وتيه اليمانيين طوال التاريخ ، لان الاف اليمنيين يومها تقاطروا الى الشام خلف رفاهية الخلافة وبالقرب من ابواب قصورها .. يا الله كم احتقر تاريخ مؤلم مخجل مخزي يتواصل .

في روايته الخالدة (يموتون غرباء) اخبرنا الراحل محمد عبدالولي ، ان عبده سعيد كان يقلب ناظريه بين وجوه جميلات ارقى حي في عاصمة الحبشة نهاراً ، ويتقلب بين احلامه والامه وعذاباته في فراشه ليلاً ، ورغم الثروة التي جمعها ، وسنوات عمره التي سفحها هناك ،الا ان سكرتيره ابلغه انه سيدفن في قبر ليس له في ارض ليست له .. صاغها محمد عبدالولي رواية وارجح انها حقيقة وان عبده سعيد بالفعل حين ادرك المأساة قال (الهي كم نحن غرباء) ولم ينحتها محمد عبدالولي من قريحته لأنه هو الاخر ابن ليمني تائه وعاش في الحبشة سنوات من طفولته وشبابه .

وصلنا الان لحظة كتابة هذه الخاطرة ولا تزال التغريبة تتواصل وملايين اليمنيين يعيشون رحلة التيه والشتات بلا احصاء او حتى رقم تقريبي ، لأنه لايوجد من ولن يوجد من يهتم او يحصي الارقام .. الجميع تائهين

كم هم اشباه عمر بن مزيقيا من اثرياء اليمن تائهين هم وثرواتهم حول عواصم العالم ؟ كم شعراء وكم مثـقـفين وكم اعلاميين وكم اكاديميين يتيهون الان بأحمالهم الثقيلة من الكلمات والمعاني والافكار ؟ كم هم التائهين الان من الباحثين عن الامان او عن البقاء على قيد الحياة ؟ كم هم التائهين الان للبحث حتى عن الحياد او اعتزال هذه المحنة ؟ كم هم التائهين في شوارع واسواق مدن الاغتراب والتيه ممن يشبهون عبده سعيد، يقلبون اعينهم في وجوه النساء وواجهات المتاجر نهاراً ويتقلبون بين عذاباتهم وآلامهم واحلامهم ليلاً .. هؤلاء شريحه بالملايين وحدهم.

الان وصل اليمنيين جميعهم في الداخل والخارج الى ذروة مأساة التيه والشتات .. فكما يحاول من في الخارج التشبث بوهم تاريخ مظلل وهويةٌ تتمزق كهروب او تعويض او مسكن لألم الفاجعة ..من في الداخل ايضا يحاولون التشبث بالجغرافيا والتضاريس وهم على الواقع تائهين في دروب مزروعةً بالألغام وطرقات مفضية الى ضياع باحثين عن لقمة مغموسة في الدم او شربة ماء عكره ملوثة .

والخلاصة : ان اليمنيين اليوم جميعهم تائهين ما بين طرقات وافاق بلادهم المسددة ، وتعقيدات قوانين العيش بكرامة في بلاد الاخرين