كانت حدود معرفتي بمملكة هولندا لا تتجاوز دائرة كرة القدم ومربعات المستطيل الأخضر، ونجومية ثلاثي اي سي ميلان في عصره الذهبي فان باستن وريكارد ورود جوليت، وكنت أعرف أنها جزيرة عاصمتها امستردام، ومشهورة بمزارع الأبقار والجبنة، وتوليد الطاقة من الرياح، وكانت سمعتها كدولة تراعي حقوق الإنسان وتحافظ على كرامته، بغض النظر عن جنسه وجنسيته، تفرض احترام رقي نظام حكمها وعظمة شعبها وقيمة ارثها الحضاري، الذي يتباهى الدكتور سعيد الجريري Saeed Salem Aljariri ، بأنه عايشه ويعايشه واقعا ملموسا، وحقيقة مجردة، تطبع بصفاته، وأعاد ضبط مصنع أفكاره على احداثياته، ورتب أولوياته على نسق استحقاقاتها، كبلد هاجر إليه مضطرا، كإنسان لاجىء وحاز على جنسيته، كمواطن، يدين بفضله في المساواة بينه وبين غيره، ومنحه المزايا قبل إلزامه بالواجبات، وفتح دروب اغترافه من نهر ثقافات أوروبية بلغته الهولندية التي بات يتقنها نطقا وكتابة وعلم وتدريسا، وتاليفا وترجمة.
حين تكون في حضرة الجريري لست بحاجة أبدا بأن تكرر السؤال عن صحته، يكفي أن ترى وجهه وهو يشع بابتسامة بهجة ونقاء وهو يرتدي هندامه الغربي الأنيق، بقوامه الرشيق، وحركته الخفيفة، وحماسته للمشي لأبعد مسافة ممكنة.
يكفي أن ترى وقاره وهيبته في صمته قبل كلامه، في تأملاته وضحكاته، في حكاياته، التي يسردها كراوية تتمنى أن يمنحك فرصة التقاط قلمك حتى تدونها كي تتعلم، كيف يكون القاص تلقائيا، وكيف يكون الكاتب نبيه وفطن، وكيف يتمتع المفكر ببعد نظر وحكمة جعلته دون غيره يدرك مبكرا أن البلد ماض إلى الهاوية، وأن الابتعاد عنه خيار، المضطر، الذي يرفض أن يؤدي بنفسه إلى التهلكة، والتسليم بحكم أن "الموت مع الجماعة رحمة".