آخر تحديث :الجمعة-09 مايو 2025-08:58م

صنعاء معزوفة الزمن الخالدة على أوتار الذاكرة

الأربعاء - 19 فبراير 2025 - الساعة 08:13 ص
علوي سلمان

بقلم: علوي سلمان
- ارشيف الكاتب


صنعاء ليست مجرد مدينة تمر بها الأيام، بل هي أم أنجبت ذكرياتي، ومحرابٌ أعتكف فيه كلما اشتقت إلى نفسي، لستُ غريبًا عنها، بل هي بعضٌ مني، وأنا بعضٌ منها، في جامعاتها نهلتُ العلم والمعرفة، وفي أزقتها تعلمتُ دروس الحياة. عشتُ فيها وزاملتُ، أكلتُ وشربتُ، تجرعتُ مرارة الفقد وحلاوة اللقاء.


في بيوتها العامرة، تناولتُ الطعام من أيدٍ كريمة، وشربتُ الماء الذي يروي الظمأ ويغسل الهموم، تغذيتُ من خضرائها اليانعة، التي تزرع في الروح الأمل والتفاؤل، درجتُ تحت سمائها الصافية، التي تلهمني الشعر والخواطر، ملأتُ صدري قوةً بنسيمها العليل وهوائها المنعش، الذي يجدد العزم ويشحذ الهمة.


صنعاء مدينة تتجاوز الوصف، وتسمو على الكلمات، إنها لغةٌ بحد ذاتها، لغةٌ لا يفهمها إلا من عشقها وعاش فيها، لغة تتجسد في جدرانها الطينية التي تحكي قصصًا من الماضي، وفي مآذنها الشامخة التي تدعو إلى الوحدة والسلام. لغةٌ تتردد في أسواقها الصاخبة، التي تعج بالحياة والحركة، وفي مقاهيها الهادئة، التي تبعث على التأمل والاسترخاء.


في صنعاء، تعلمتُ أن الجمال يكمن في البساطة، وأن السعادة تكمن في القناعة، تعلمتُ أن الكرم ليس مجرد عادة، بل هو قيمةٌ أصيلة متجذرة في نفوس أهلها، تعلمتُ أن الصداقة كنزٌ لا يُفنى، وأن الأخوة رابطٌ أقوى من كل الظروف.


صنعاء مدينة لا تشبه المدن الأخرى، إنها مزيجٌ فريد من الأصالة والمعاصرة، من التاريخ والحاضر، مدينة تحافظ على تراثها العريق، وفي الوقت نفسه تتطلع إلى المستقبل، مدينة تحتضن الجميع، وترحب بكل من يقصدها.


صنعاء يا حبيبتي، يا ملهمتي، يا جزءًا من روحي، سأظل أحمل ذكراكِ في قلبي، وأتغنى بجمالك في شعري. سأظل أذكر أيام الدراسة والزمالة، وأذكر ليالي السمر والؤنس سأظل أذكر كل لحظةٍ قضيتها في ربوعك، وكل بسمةٍ رأيتها على شفاه أهلك.


بعض كلماتي الأدبية في وصف صنعاء تبين مدى عمق حبي وعظيم امتناني لهذه المدينة بعد مناقشتي لرسالة الماجستير



صنعاء ليست مجرد أسم يتردد على ألسنة السائحين أو المؤرخين، بل هي لحن أبدي يعزف على أوتار الذاكرة، ونبض قلب ينبض في شرايين التاريخ، هي مدينة تتجاوز حدود الجغرافيا لتصبح رمزًا للأصالة والعراقة، وكأنها لوحة فنية رسمتها يد القدر بألوان من عبق الماضي وحلم المستقبل، تستلقي في حضن جبال اليمن الشامخة، كملكة متربعة على عرش من ياقوت، تتأمل من عليائها تدفق الأيام وتعاقب الفصول. صنعاء هي سفرٌ في كتاب أزلي، كل كلمة فيه محفورة في قلب الصخر، وكل سطر يروي قصة أمة.


ما أن تخطو قدمك عتبة بوابتها العتيقة، حتى تستقبلك المدينة بألف ذراعٍ مفتوحة، وبألف حكاية لم تُروَ بعد، تنتظر من يفك رموزها ويكشف أسرارها، تهمس لك الجدران الشامخة، تلك الشواهد الصامتة على عظمة الماضي، عن ملوكٍ بنوا، وشعراء تغنوا، وفنانين أبدعوا، وعلماء أفاضوا بعلمهم ومعرفتهم، في كل زقاق ضيق تتراقص ظلال الماضي، وفي كل ساحة عامة يتردد صدى خطوات الأئمة وهمسات العشاق وأغنيات الأطفال.


البيوت الصنعانية، تلك التحف المعمارية التي تتراص كحبات المسبحة في يد متعبد، تعلو وتشمخ في تآلف بديع، كأنها تتسابق للوصول إلى السماء، لتلامس الغيوم وتستمد منها الإلهام. تزدان واجهاتها بالزخارف الجصية المتقنة، التي تحكي قصصًا من التراث اليمني العريق، وترسم لوحات فنية تجسد أحلام الفنان الصنعاني، وتعكس ذوقه الرفيع، كل نافذة هي عينٌ ساهرة تنظر إلى العالم، وكل باب هو مدخل إلى عالم آخر، عالم من الدفء والألفة والكرم، عالم يرحب بالزائر بابتسامةٍ صادقة تنبع من القلب.


عندما يطل الصباح البهي بوجهه الوضاء، وتتسرب خيوط الشمس الذهبية بين البيوت العتيقة، تستيقظ المدينة على أنغام الحياة المتجددة. يرتفع صوت المؤذن من المآذن الشامخة، داعيًا إلى الصلاة، فتتجاوب معه القلوب المؤمنة، وتتجه الأنفس إلى خالقها في خشوع وإجلال، وتتحد الأرواح في سماء المدينة، ثم تبدأ الحياة في التدفق كالنهر المتدفق في شرايين المدينة، في أسواقها العتيقة، وفي دروبها الملتوية، وفي ساحاتها الفسيحة.


أسواق صنعاء هي قلب المدينة النابض، وروحها السامق، ومتحفها الحي الذي يعرض كنوز التراث. يعرض الباعة بضائعهم المتنوعة، من المشغولات اليدوية التي تحمل بصمة الفنان الصنعاني، إلى التوابل العطرية التي تفوح برائحة الشرق الأصيل، إلى الملابس الحديثةو التقليدية التي تحكي قصصًا من الأناقة والجمال، تتداخل الأصوات والروائح والألوان، في مشهد ساحر يأسر الحواس، ويأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن، ليكتشف كنوز الماضي وعظمة الحاضر، هنا يمكنك أن تجد كل ما تشتهيه النفس، وكل ما يذكرك بعظمة التراث اليمني الأصيل.


ولكن جمال صنعاء لا يقتصر على عمرانها وتراثها المادي، بل يمتد إلى أهلها الطيبين، الذين يتميزون بالكرم، والأصالة، والتمسك بالعادات والتقاليد الحميدة. يستقبل أهل صنعاء الضيوف بابتسامةٍ صادقة من القلب، ويقدمون لهم القهوة العربية الأصيلة والتمر، تعبيرًا عن حفاوة الترحيب والكرم الأصيل الذي ورثوه عن أجدادهم. إنهم يحافظون على قيم الأصالة والجود، ويورثونها للأجيال القادمة، ليظلوا نبراسًا يضيء دروب السائرين.


صنعاء، يا مدينة التاريخ والحضارة، يا ملهمة الأدباء والشعراء، يا حاضنة الأسرار، ويا منبع الإبداع، ستبقين في القلب ذكرى لا تمحى، وقصة عشق أبدية لا تنتهي. ستبقين ترنيمةً ترددها الأجيال، ونبراسًا يضيء دروب السائرين. ستبقين شاهدة على عظمة الماضي، وحلمًا يراود المستقبل. فلكِ مني يا صنعاء، ألف تحية وسلام، وألف قبلة على جبينك الأسمر، وألف وعد بأن تبقى ذكراكِ حية في قلبي ما حييت.