في زحامِ الحياةِ المُتسارعة، وفي دوّامةِ المشاغلِ اليومية، غالبًا ما ننسى أنفسنا، ناهيك عن الآخرين، تُصبحُ الحياةُ سباقًا محمومًا نحو تحقيقِ الذات، ونُغفلُ عن جوهرِ الإنسانية رحمتنا ببعضنا البعض، وتفقدنا لأحوالِ إخواننا دونَ منٍّ أو كبرياء، دونَ انتظارِ مقابلٍ أو ثناء، لكنّ الصيامَ، في فلسفتهِ العميقة، يُذكّرُنا بهذهِ القيمةِ الإنسانيةِ النّبيلة، ويُرشّدُ نفوسَنا كي تُحسّ بمن حولها، وتَزدادَ شعورها بتحسّسِ الآخرين، وتفقدِ معيشتهم، وطعامهم، وعلاجهم، وكلّ ما يُجلِبُ السعادةَ والسكينةَ في قلوبهم، إنه ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو رحلةٌ روحيةٌ عميقةٌ تُعيدُ تشكيلَ علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
فالصيامُ:
أولاً: يُمثّلُ تجربةً فريدةً للتّواضعِ والتّخلي، حيث يُجبرُ الصائمُ على التّخلي عن رغباتهِ الجسديةِ، ليس فقط الطعام والشراب، بل حتى بعض الملذات الأخرى، ليُدركَ قيمةَ الشكرِ على نعمِ الله، ويُقدّرَ معاناةَ الفقراءِ والمحتاجين، في هذهِ التجربةِ، يتعرّفُ الصائمُ على معنى الحرمان، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل على المستوى النفسي والاجتماعي أيضاً، فهو يُدركُ حجمَ الفجوةِ بينه وبين من يعانون من الجوع والفقر والمرض، فلا يقتصر الأمر على الشعور بالجوع والعطش، بل يتجاوز ذلك إلى فهم أعمق لمعاناة الآخرين.
ثانيًا: يُسهمُ الصيامُ في تنقيةِ النفسِ وتطهيرِها من الشوائبِ والرذائل، فبامتناعِ الصائمِ عن المُلذّاتِ الحسية، يُصبحُ أكثرَ قدرةً على ضبطِ نفسهِ، ومُقاومةِ الشهواتِ، وتجنّبِ المُحرّمات، هذه المُمارسةُ تُؤدّي إلى تَصفيةِ الذهنِ، وزيادةِ التركيزِ، وتَحسّنِ القدرةِ على التّفكيرِ والتّأمل، مما يُمكّنه من رؤية العالم من منظورٍ أوسع وأكثر تعاطفاً، فهو يصبح أكثر وعياً بمعاناة الآخرين، وأكثر قدرة على فهم احتياجاتهم.
ثالثًا: يُوفّرُ الصيامُ فرصةً ثمينةً للتّفكرِ والتّدبّر، ليس فقط في أمور الدين، بل في الحياة بجميع جوانبها، ففي ساعاتِ الصيام، يجدُ الإنسانُ نفسهُ أمامَ نفسه، يُراجعُ أفعالهُ وأقواله، ويُقيّمُ حياتَه، ويُحدّدُ أهدافَه، هذه المُمارسةُ تُساعدُهُ على اكتشافِ نقاطِ قوّتهِ وضعفه، وعلى تطويرِ ذاته، وتحقيقِ أهدافه، مما يُمكّنه من أن يكون أكثر فعالية في مساعدة الآخرين.
رابعًا: يُعززُ الصيامُ من القدرةِ على التحمّلِ والصبر، ليس فقط على الجوع والعطش، بل على الصعاب والتحديات في الحياة بشكل عام، هذه الصفاتُ تُساعدُهُ على النجاحِ في حياته، وعلى التّغلّبِ على الصّعاب، مما يُمكّنه من أن يكون أكثر قدرة على مساعدة الآخرين في مواجهة تحدياتهم.
خامسًا: يُسهمُ الصيامُ في تنميةِ روحِ التّعاونِ والتّكافلِ الاجتماعيّ، فالصائمونَ يتشاركونَ في أفراحِهم وأحزانهم، ويتبادلونَ التّعاطفَ والرّحمة، ويتعاونونَ على إعدادِ موائدِ الرحمنِ، ويسعون لمساعدة المحتاجين، هذه المُمارسةُ تُعززُ من الروابطِ الاجتماعية، وتُنمّي فيهِ روحَ التّضامنِ والإيثار، مما يُؤدّي إلى مجتمعٍ أكثر تماسكاً وتضامناً.
رحمةَ الإنسانِ بأخيهِ الإنسانِ لا تقتصرُ على إعطاءِ المالِ أو الطعام، بل تتعدّاها إلى مُشاركةِ الآخرينِ أفراحهم، ومُواساتهِم في أحزانهم، والإصغاءِ إلى مشاكلهم، وتقديمِ النّصائحِ لهم، وحتى مجرد كلمة طيبة أو ابتسامة صادقة إنّها تتطلّبُ منّا أن نكونَ أكثرَ تفهّمًا، وأكثرَ تعاطفًا، وأكثرَ استعدادًا للتّعاونِ والتّضامن، وأن نكون أكثر وعياً بمعاناة الآخرين، نعمل على تخفيفها قدر الإمكان.
فلنجعلْ من شهرِ رمضانَ فرصةً لتجديدِ عهدنا مع رحمةِ الله، ورحمةِ الإنسانِ بأخيهِ الإنسان، ولنُسارعْ إلى مدّ يدِ العونِ لمن يحتاجُها، ولنُشاركَ الآخرينَ أفراحهم، ولنُواسِهم في أحزانهم، ولنُساهمَ في بناءِ مجتمعٍ قائمٍ على التّراحمِ والتّضامن، مجتمعٍ يُشعُّ بالحبّ والسلام، مجتمعٍ يُجسّدُ معنى الإنسانية الحقيقية.