غزة ليست مجرد مدينة على خارطة العالم وليست رقعة جغرافية نائية يمكن طمسها بجرافة احتلال أو تحويلها إلى مقبرة جماعية تحت سطوة آلة الحرب غزة ليست مكانًا غزة فكرة والفكرة لا تموت غزة وجعٌ لا يشيخ وقضية لا تشيخ وصرخة لا تخفت غزة حكاية البقاء المستحيل في وجه الفناء الدائم حكاية مدينة أرهقها الحصار وأدمتها المجازر وتكسرت على أبوابها كل محاولات الإبادة غزة لا تكتب سيرتها بالحبر بل بالدم وبارود الصواريخ ودموع الأمهات وأكفان الأطفال غزة تكتب ملحمتها كل يوم من جديد تخرج من تحت الأنقاض لتبتسم بوجه الشمس ولتبصق في وجه العدو وتقول له أنا غزة الروح التي لا تموت.
في غزة لا يوجد مكان للترف ولا للحياد إما أن تكون فيها حياً بروحك كلها أو لا تكون لا مكان فيها لأنصاف الرجال ولا للمواقف الرمادية في غزة كل شيء واضح كجراحها المفتوحة كعيون أطفالها التي تسأل متى تنتهي الحرب دون أن تفهم ما معنى الحرب غزة لا تعرف الخوف لأنها شبعت من الخوف ولم يمت فيها أحد خوفًا بل ماتوا شهداء ووقفوا كالجبال رغم أن الجبال تتصدع في وجه الزلازل غزة صنعت من الألم طريقًا للكرامة ومن الحصار مدرسة للصبر ومن الدماء عيدًا للشهداء غزة علمتنا أن لا أحد يموت مرتين وأن من يموت واقفًا لا تسقط روحه في وحل المساومات والخذلان.
غزة التي كسر العدو كل قوانين العالم على جسدها ولم ينكسر فيها سوى صمتنا غزة التي استبيحت فيها البيوت والمستشفيات والمدارس والمساجد ولم تُستبح فيها الكرامة غزة التي تمشي بثوبها الممزق حافية القدمين لكنها ترفع رأسها عاليًا لأن الأرض تشهد والسماء تشهد والضمائر التي لا تزال حية تشهد أن غزة لم تفرط لم تستسلم لم تضع يدها في يد القاتل ولم تبيع دم الشهداء غزة هي المدينة التي اختارها القدر لتكون ميزانًا أخيرًا لضمير العالم ومقياسًا لإنسانية تتآكل في كل مكان إلا في عيون أمهات الشهداء ووجوه المجاهدين وأكفّ الأطفال التي ترتفع كل مساء بالدعاء إلى السماء.
غزة تحترق لكن رمادها لا يتلاشى بل يتحول إلى جذوة تقاوم وتضيء في وجه الظلام غزة تُقصف كل يوم لكنّها لا تموت لأنها ببساطة لا تعرف معنى الموت غزة لا تودع أبناءها بالبكاء بل بالتكبير والتهليل غزة تُجبرنا على أن نعيد ترتيب مفاهيمنا حول الحياة والبطولة والصبر والصمود غزة تعلمنا أن الدم يمكن أن يكون أبلغ من ألف بيان وأن الجسد الممزق قد يقول ما عجزت عنه خطب الساسة ومؤتمرات الطاولة غزة لا تعول على العالم ولا على البيانات ولا على هدنة تكتب بحبر الخداع هي تعرف أن طريقها معبدٌ بالأشواك لكنها قررت أن تسير فيه حتى النهاية لأنها تعرف أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع انتزاعًا من فم الوحش.
في غزة لا مكان للخوف لأن الخوف قد جُرب ولم يمنع المجازر لا مكان للخذلان لأنه طُعناتنا المتكررة من أبناء جلدتنا لا مكان للانتظار لأن الوقت صار عدوًا آخر لا مكان للمفاوضات لأن العدو لا يفهم إلا لغة القوة غزة التي قاومت الحصار والانقسام والخذلان والانفجارات والموت والجوع والفقر والخذلان العربي والدولي والإنساني لا تزال تقاوم بصمتها أحيانًا وبصواريخها أحيانًا أخرى وبدموع نسائها ودماء أطفالها كل حين غزة ليست بحاجة لكلمات التضامن على الشاشات بل إلى وقفة عز حقيقية إلى نبض صادق إلى سواعد مخلصة تعرف أن الوقوف مع غزة ليس خيارًا بل واجبًا ومبدأً.
غزة ليست وحدها في هذه الحرب لكنها الوحيدة التي تقاتل لا من أجل نفسها فقط بل من أجل شرف الأمة كلها غزة تقاتل لتذكرنا من نحن وما الذي كنا نملكه قبل أن تُباع قضايانا على موائد السياسة الرخيصة غزة تقاتل لكي لا ننسى أن للحق وجها وأن للمحتل وجها وأن العدل لا يُجزأ وأن فلسطين ليست نشرة أخبار بل وجع مزمن ومهمة تاريخية غزة التي تحترق اليوم تحت سماء صامتة ستُحرق غدًا ضمائرنا إن بقينا متفرجين غزة التي تسير في جنازات أبنائها كل صباح ومساء دون أن تركع ستبقى حيّة لأن الروح التي تسكنها أكبر من الموت وأقوى من الحصار وأطهر من صمت العالم كله.
غزة اليوم تقول لنا إنها روح هذا الزمان المكبلة لكنها لا تنكسر روح تصرخ من تحت الأنقاض لا تبكوا عليّ بل انهضوا لأجلي لا تبحثوا عنّي في الشاشات بل ابحثوا عن أنفسكم في مواقفكم في ضمائركم في صمتكم غزة تقول لنا كل يوم أنا هنا لا أنتظر موتي بل أعد نفسي لحياة جديدة من بين الركام ومن تحت القصف ومن وجع الحصار لأنني مؤمنة أن من يزرع الدم على هذه الأرض لا بد أن يحصد النصر ولو بعد حين غزة تقول لنا لا تجعلوا من موتنا مشهدا عابرا بل اجعلوا من صمودنا عهدا لا يُنكث لأن من خان غزة خان أمته ومن تخلّى عنها تخلى عن شرفه الإنساني والوطني غزة تقول أنا الروح التي لا تموت لأني ببساطة اخترت الحياة الحرة أو الموت الشريف ولا ثالث لي بينهما.
غزة ستبقى وإن تبدل العالم وإن أظلمت السماء وإن غفت الضمائر لأنها خُلقت لتبقى لأن فيها شيئًا من الله لا يموت لأن فيها نبضًا من الأنبياء لا يخمد لأن فيها كل المعاني التي نستحي أن نواجه بها أنفسنا غزة باقية في وجه الطغاة والشامتين والمطبعين والمتخاذلين لأنها الروح التي لا تموت مهما زاد الجرح وامتد الليل وكثرت المذابح لأن الدم لا يصمت والحق لا يُنسى والكرامة لا تُمحى ستبقى غزة ما بقي في الأرض رجل حر وامرأة صابرة وطفل يحلم بالسماء دون طائرات تقصفه ستبقى غزة لأن الله وعد وأن وعد الله حق.
محمد العنبري