صديقي يقول: "أمي دمرت حياتي"
بر الوالدين.. بين #الرحمة و #الاستبداد
لقد أمرنا الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، ولكن هذا الأمر الإلهي #العظيم لم يكن أبداً إذنًا بالاستبداد ولا ترخيصاً #للظلم. فالإسلام #دين العدل الذي وضع ضوابطاً دقيقة لعلاقة الأبناء بوالديهم.
الإحسان إلى الوالدين في قوله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (سورة الإسراء: 23) من الآيات الجامعة التي تربط بين حقِّ الله تعالى وحقِّ #الوالدين، حيث يقترن الأمر بعبادة الله وحده بالأمر بالإحسان إلى الوالدين، مما يدل على المكانة العظيمة للبرِّ بالوالدين في الإسلام. فما هو الإحسان المقصود هنا؟ وما دلالته؟
معنى الإحسان في الآية:
الإحسان لغةً هو #الإتقان والزيادة في #الخير، وأما في الآية الكريمة فيعني معاملة الوالدين بأعلى درجات اللطف والرعاية والبر، وهو يتجاوز العدل إلى الإكرام. وهذا يشمل:
الطاعة والاحترام: بأن يطيع الولد والديه في غير معصية الله، ويتجنب أيّ قول أو فعل يُسيء إليهما، ولو كان صغيرًا ككلمة "أُفّ" التي نَهت عنها الآية التالية. الرعاية الشاملة: من النفقة والخدمة والاهتمام، خاصة في الكِبَر، قال النبي ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قيل: مَنْ؟ قال: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).
-الدعاء لهما: سواء في حياتهما أو بعد مماتهما، كأن يقول تعالى : "رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: 24).
لماذا جاء الإحسان مقرونًا بالتوحيد؟
جمع الله بين عبادته وبر الوالدين في آية واحدة لسببين رئيسيين:
بيان عظم حق الوالدين: فهو من أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى، حتى إن النبي ﷺ جعل برَّهما من أفضل الأعمال بعد الصلاة (كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه).
التأكيد على أن الإحسان عبادة فمعاملة الوالدين بإكرام ليست مجرد أخلاق، بل طاعة لله وسبب لدخول الجنة.
الإحسان في المفهوم الإسلامي الشامل:
الإحسان ليس مقصورًا على الأفعال المادية، بل يشمل:
-حُسن الخُلُق كالتحدث بلين، والصبر على طلباتهما حتى لو تكررت.
الاعتراف بالجميل ولو بمجرد الدعاء، إذ يقول تعالى: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ"(لقمان: 14).
وهكذا يجعل الإسلام الإحسان إلى الوالدين عبادةً متصلةً بالتوحيد، وفرصةً للتكفير عن الذنوب، وسببًا لتفريج الكروب، كما في الحديث: «بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ»(رواه الطبراني).
إن البر الحقيقي لا يعني التنازل عن الكرامة الإنسانية التي كرمنا الله بها، ولا التخلي عن الحقوق التي شرعها الله لعباده. فقد جاء في الحديث الصحيح: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وهذه قاعدة ذهبية تحمي الأبناء من تحول البر إلى استغلال.
إن الوالدين المؤمنين الحقيقيين هم من يفهمون أن الأبناء أمانة إلهية، وليسوا ملكية شخصية. فهم يعلمون أن التربية الصالحة تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، لا على القهر والإذلال. ويعلمون أن أعظم برٍّ يمكن أن يقدموه لأبنائهم هو تعليمهم حدود الله وعدم إجبارهم على معصيته.
إن الولد الصالح الذي يدعو لوالديه بعد موتهما هو الثمرة الحقيقية للتربية الصالحة. فهل يعقل أن نطلب من الأبناء أن يكونوا صالحين ونحن نفسد صلاحهم؟ هل ننتظر منهم الدعاء لنا ونحن نكدر حياتهم؟
لقد جعل الله للوالدين مكانة عظيمة، ولكن هذه المكانة لا تلغي حقوق الأبناء ولا تسوغ ظلمهم. الإسلام الحنيف هو دين التوازن والعدل، لا دين الإفراط ولا التفريط.
البر بالوالدين بين الطاعة والعدل:
جعل الإسلام بر الوالدين من أعظم القربات، لكنه لم يجعله طريقاً للذل أو الظلم. فالحقوق في هذا الدين متبادلة، والعدل هو أساس العلاقات. فلو أمر الوالدان ولدهما بمعصية فلا سمع ولا طاعة لهما، فطاعة الخالق فوق كل طاعة. وقد قال تعالى: "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا" (لقمان: 15). فلا يجوز للابن أن يطيع والديه في شرك أو ظلم أو إيذاء للنفس أو للغير.
والوالدان مسؤولان عن رعاية الأبناء بالعدل والرحمة، فلا يحق لهما استغلال بر الابن لاستعباده أو إذلاله. فالأبناء ليسوا ملكاً للآباء، بل هم أمانة عندهم يجب أن يحفظوها بحق. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟". فكما أن على الابن البر بوالديه، فعلى الوالدين رعاية الابن وإكرامه.
وللأبناء حقوق لا تسقط بحجة البر. فإذا ظلم الوالدان ابنهما، كانت له دعوة مستجابة، خاصة إن كان صالحاً أو مظلوماً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ".
فليحذر الوالدان من ظلم أبنائهما، فقد يدعو الابن عليهما بعد موتهما فيكون ذلك سبباً في حرمانهما من الرحمة. في يوم يفر المرء من أمه وأبيه، وكل واحد منهم يأخذ حقه من الرحمن دون نقصان.
فالبر الحقيقي هو الذي يجمع بين الإحسان للوالدين والعدل مع الأبناء. فالدين يسر لا عسر، وكل إنسان مسؤول عن رعيته. فكما يجب على الابن أن يبر والديه، يجب على الوالدين أن يعدلا في أبنائهما ويتقوا الله فيهم. فالدنيا دار اختبار والآخرة دار جزاء، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
صديقي عاش تحت سيطرة أم متسلطة:
حرمته من حريته منذ الصغر، أُجبر على دراسة ما لا يرغب، وعمل لا يحبه، وزواج بغير اختياره. تحول منزله إلى جحيم بفعل تدخلاتها اليومية، حتى زوجته عانت من هيمنتها التي لا تنتهي. كانت تتحكم في أدق التفاصيل وتفرض أوامرها بقسوة تحت شعار "الأمومة المزيفة" التي تشوه معناها الحقيقي. الإسلام بريء من هذه الأفعال، فليس للوالدين حق في سلب إرادة الأبناء أو كرامتهم.
صديقي يقول: "أمي دمرت حياتي"
عندما يُستغل "بر الوالدين" كغطاء للظلم!
لطالما أكد الإسلام على بر الوالدين، لكنه لم يجعل منه ذريعةً لسحق حقوق الأبناء. فالإحسان المطلوب في الآية "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" لا يعني الخضوع لاستبداد الوالدين، بل هو علاقة متوازنة تقوم على العدل والرحمة.
صديقي الذي يصرخ: "أمي دمرت حياتي" يعيش مأساة حقيقية، حيث تحول بره لأمه إلى سيف مسلط على رقبته. فبدلاً من أن تكون الأم سنداً له، أصبحت سجناً يكبله:
- تسيطر على قراراته المصيرية (الزواج، العمل، السكن) التي ليس لها حق فيها، بل هي مسؤوليات الأبناء وحدهم. "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول".
- تستخدم الدعاء سلاحاً لابتزازه عاطفياً.
- تمارس التفرقة بينه وإخوته.
الإسلام العظيم وضع ضوابط لهذا البر:
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولا يجوز للوالدين تجاوز حدود الله في التعامل مع الأبناء. و للأبناء حقوق لا تسقط بحجة البر. (وللعلم، حديث "أنت ومالك لأبيك" حديث لا يصح).
ولعل الأبناء يستعينون بالله ويلجؤون إلى الدعاء، ثم يعلمون أن الحل يكمن في:
أن بر الوالدين لا يناقض حماية النفس من الظلم. وضع حدود واضحة مع الاحتفاظ بالاحترام. ولاستعانة بأهل الحكمة لحل الخلافات.
فالوالد الحكيم هو من يسعى لسعادة أبنائه، لا أن يجعلهم ضحايا لرغباته. والبر الحقيقي هو ما جمع بين حقوق الوالدين وحقوق الأبناء في إطار العدل الإلهي.
التفرقة بين الأبناء: جريمةٌ تربوية تُهدم الأسرة.
لم تكن التفرقة بين الأبناء يوماً سلوكاً عابراً، بل جريمة تربوية تترك جراحاً غائرة في نفوس الأبناء، وتُفكك عرى الأسرة التي حرص الإسلام على تماسكها. فحين يُميز الوالدان بين أبنائهم، سواء في العطاء أو المشاعر، فإنهم يزرعون بذور الكراهية والحقد، ويخالفون توجيهات النبي ﷺ الذي أمر بالعدل بين الأولاد، فقال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (رواه البخاري).
العدل ليس تفضيلاً، بل حقٌ شرعي:
لقد جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ ليشهده على هبةٍ أعطاها لابنه، فسأله الرسول ﷺ: «أكل ولدك أعطيت مثل هذا؟» فلما أجاب الرجل بالنفي، قال له النبي ﷺ: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (رواه مسلم). هذا الموقف النبوي يُظهر خطورة التمييز حتى في الهبات والعطايا المادية، فكيف بالتفضيل في المشاعر والرعاية؟
إن العدل بين الأبناء ليس مجرد إنصافٍ في المال، بل هو توازنٌ في الحب والاهتمام. فكم من طفلٍ تحطمت ثقته بنفسه لأنه شعر بأن أخاه الأكثر حظوةً عند والديه! وكم من أسرةٍ تشققت بسبب الغيرة المتراكمة بين الإخوة! التفرقة تُهيئ أرضاً خصبة للقطيعة، وربما تصل إلى العقوق في الكِبَر، حين يذكر الأبناء أيام الظلم والهوان.
كيف نُصحح المسار؟
إن كان التمييز قد وقع، فلا يُصلحه إلا الاعتراف بالخطأ، ومحاولة التعويض بالعدل. على الوالدين أن يبذلا جهداً لإعادة التوازن، بالمساواة في العطاء، وإظهار المودة للجميع، وتذكير الأبناء بقيمة الأخوة وصلة الرحم. فالأسرة وحدةٌ واحدة، وإذا سقط العدل فيها، سقطت معه القيم كلها.
فليتذكر كل أبٍ وأمٍ أن التفرقة جريمةٌ لا تُرتكب بحق الأبناء فقط، بل بحق الأسرة كلها، وبحق الدين الذي أمر بالقسط حتى في نظرة العين.
ختاماً
الإسلام - وهو دين العدل والتوازن - رفع من مكانة الوالدين وأمر بالإحسان إليهما، لكنه في الوقت نفسه حمى الأبناء من تحويل هذا البر إلى ذريعة للاستبداد أو الظلم. فليس في الإسلام ما يبيح للوالدين سحق إرادة الأبناء أو انتهاك كرامتهم تحت شعار "الطاعة العمياء"، لأن العلاقة الصحية بين الطرفين يجب أن تقوم على الرحمة المتبادلة، لا على الهيمنة أو الإكراه.
القضية الأعمق هنا هي أن البر الحقيقي لا يتناقض مع العدل، فكما أن للأبناء واجبات تجاه آبائهم، فللوالدين مسؤوليات عظيمة في رعاية أبنائهم دون ظلم أو تمييز. فالتفرقة بين الأبناء، أو التحكم في حياتهم بقسوة، أو إجبارهم على قرارات مصيرية ضد رغبتهم، كلها ممارسات تتناقض مع روح الإسلام الذي حذر من الظلم حتى داخل الأسرة.
لذلك، فإن صرخة الابن الذي يشكو أن أمه "دمرت حياته" ليست مجرد شكوى عابرة، بل هي إشارة إلى خلل في فهم معنى البر، الذي يجب أن يجمع بين الإحسان إلى الوالدين وحفظ حقوق الأبناء. فالدين يسر لا عسر، والوالد الحكيم هو من يدرك أن سعادة أبنائه جزء من برهم به، وأن التربية الصالحة لا تكون إلا بالحكمة والرحمة، لا بالقسوة والاستبداد.
في النهاية، الإسلام بريء من أي تفسير متطرف يحوِّل البر إلى استعباد، أو يجعل الطاعة ذريعةً للظلم. فالعلاقة المثالية بين الوالدين والأبناء هي تلك التي تقوم على المودة والاحترام المتبادل، في إطار تعاليم الدين التي ترفض الإفراط والتفريط، وتدعو إلى التوازن في كل شيء.
رأفت رشاد باقي
08/04/2025