آخر تحديث :الثلاثاء-06 مايو 2025-02:29ص

ألم الفراق ووجع الأشواق

الثلاثاء - 15 أبريل 2025 - الساعة 03:34 م
د. عارف محمد الحوشبي

بقلم: د. عارف محمد الحوشبي
- ارشيف الكاتب



بقلبي المنكسر الحزين، وبألمٍ في الروح يعجز الحبر عن وصفه، والكلمات عن التعبير عنه، أحاول اليوم أن أكتب... لا لأحد، بل لك أنت يا أبي، وقد مضيت إلى مثواك الأخير، وأصبحت بين يدي مولاك.


أكتب لك وداخلي وجع لا يزول، وفراغ لا يملؤه الكون، وحنين ينهش قلبي كل لحظة، وشوق يقطع روحي في كل ثانية أتذكّر فيها أنك رحلت عني، وتركتني وحيدًا واقفًا على أبواب الحياة، أطالعها لعلّي أرى طيفك، وأفتّش في الوجوه من حولي عن دفء روحك، وأبحث في الأصوات علّني أسمع نبرة صوتك، وفي تفاصيل الأيام عن ظلك الذي كان يمنحني الأمان. لكن بعد كل ذلك لا أجد إلا الغياب، والوجع، ودمعة تختنق في عيني، ولا تسقط إلا بعد أن تبكي روحي، ويدمع قلبي.


يا أبي... أودّعك وفي صدري صراخ لا يُسمع، ودموع لا يراها أحد. أودّعك وأنا أعلم أن الحياة بعدك لن تكون كما كانت. أصبحتَ الغائبَ الحاضر، وانقلبت الحياة باردة وصامتة، ينقصها دفء وجودك الذي لا يُعوَّض. لقد رحلت يا من كنتَ سندي وملاذي بعد الله، رحلت يا من كنت أستنير بنظرتك، وأطمئن بدعائك، وأسعد بفرحتك، رحلت بهدوء يشبه طيبتك، وخلّفت في نفسي جرحًا لا يندمل، ووجعًا لا يواسيه الزمن ولا تخففه الكلمات.


لقد كنت لي أكثر من أب... كنت صديقي الأقرب، وملاذي الأحن، ورفيقي في كل اللحظات. كنت تحبني بلا شروط، وتخاف عليَّ حتى من المسافات، وإذا افترقنا لبضع كيلومترات، شعرتَ بي وكأن بين قلبي وقلبك خيطًا لا ينقطع. لم تعاملني يومًا بسلطة الأب، بل بروح الصديق الصادق، تسمعني بهدوء، وتشاركني أفراحي وأحزاني، وتحتويني بحنانك، وكأنك خُلِقتَ لتكون كل شيء في حياتي.


لقد كنتَ لا تحتمل فراقي، تشتاق إليّ وكأن قلبك لا يهدأ إلا بلقائي. كانت أرواحنا متّصلة، ومشاعرنا متشابكة، وكان أجمل ما في عمري ضحكتك، ورضاك، وحضورك الذي لا يُنسى.


علّمتني أنا وإخواني كيف نكون أوفياء، كيف نحب بإخلاص، ونعيش بشرف، ونموت بكرامة. ضحّيت من أجلنا بكل ما تملك، من وقتك وجهدك وصحتك، من أجل أن نصبح رجالًا نفتخر بحمل اسمك، ونتشرّف بأننا أبناؤك. وبرغم كل ما قدمت، ندرك تمامًا أن وفاءنا لك، مهما عَظُم، لن يفيك حقك.


لقد علّمتنا الصدق، والأمانة، والحياء، والرجولة، وربيتنا على نصرة الحق، وعلى أن نكون سندًا لكل مظلوم، وغرست فينا محبة الخير والتسامح، وحرصت على أن نكون رجالًا بأخلاقنا قبل أي شيء.


وبرحيلك يا أبي، أغلق باب من أبواب الجنة في الدنيا، باب كان مفتوحًا برضاك، ونظرتك الحانية، ودعائك الدافئ. وقد سبقه قبل سنوات باب آخر، أُغلق برحيل أمي – رحمها الله – فكان فراقها أول كسرٍ في الروح، وها هو فراقك اليوم يكمل الحزن، ويجعل للبيت طعم الغياب الأبدي الذي لا يُعوّض.


لكن ما يهدّئ من روعنا، أن الله أكرمكما بحسن الخاتمة، وأنكما رحلتما وأنتما راضيان عنا، مطمئنان علينا. نعم، نواسي أنفسنا بأننا لم نقصّر، وأنكما غادرتما وأنتما تدعوان لنا، وتباركان خطواتنا، وقلوبكما مملوءة بالرضا والحب.


نم قرير العين يا أبي، ومعك أمي، فقد أديتما الأمانة، وأحسنتما التربية، وكفيتما ووفيتما. سنظل نفتخر بكما كما كنتما تفتخران بنا. سنحمل ذكراكما في كل دعاء، ونعيش على وصاياكما، حتى نلقاكم بإذن الله في جنات الخلد حيث لا فراق بعده.


وفي ختام هذا المصاب الجلل، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان لكل من قدّم لنا واجب العزاء والمواساة في وفاة والدي الغالي، سواء بالحضور، أو الاتصال، أو بالرسائل. لقد خففتم عنّا ألم الفقد، وأثبتم أن الحب لا يُقاس بالكلمات، بل بالمواقف الصادقة.


أسأل الله أن يتغمدك يا أبي بواسع رحمته، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ويرفع درجتك في عليين، ويجمعنا بك وبأمي في الجنة، دار القرار، التي لا فراق فيها ولا وداع.


"إنا لله وإنا إليه راجعون."