في سياق السياسات الاقتصادية للرئيس دونالد ترامب في عام 2025، فرضت الإدارة الأمريكية تعريفات جمركية واسعة النطاق، مما أثار جدلًا حول قانونيتها وتأثيرها على العلاقات الدولية، لا سيما مع الصين. وردّت بكين سريعًا بفرض رسوم مضادة، لتُعلن -ولأول مرة- مغادرتها مربع "الصبر الاستراتيجي" والدخول في مواجهة مباشرة مع القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
فهل نحن أمام لحظة تحوّل في التوازنات الدولية؟ تهدف هذه المقالة إلى تقييم طبيعة هذه التعريفات من حيث قانونيتها ومؤسسيتها، وكيفية فهمها من قبل الصين، بالإضافة إلى تحليل أبعاد المواجهة الاقتصادية المترتبة عليها.
أولًا: طبيعة التعريفات:
خلال ولايته الأولى (2017–2021)، استخدم ترامب أدوات قانونية مثل قانون السلطات الاقتصادية الدولية الطارئة لعام 1977 وقانون التجارة لعام 1974، لفرض تعريفات جمركية دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس، مستندًا إلى مبررات مثل الأمن القومي والطوارئ الاقتصادية.
وفي أبريل 2025، أعاد ترامب تفعيل هذه السلطات، معلنًا عن تعريفات جمركية جديدة ضمن سياسة "أمريكا أولًا"، ووصف الوضع بأنه "طوارئ اقتصادية وطنية"، كما جاء في بيان البيت الأبيض. لم تُشر الإدارة إلى أي موافقة من الكونغرس، ما يعني أن القرار كان رئاسيًا بامتياز وليس نتاجًا لمؤسسات الدولة.
ثانيًا تقييم الوضع:
قد تفهم الصين هذه الخطوة كـ"تهديد تفاوضي" أكثر منها سياسة اقتصادية مستقرة. ترامب سبق أن استخدم هذا الأسلوب للحصول على تنازلات، كما حدث في مفاوضات 2018–2019. غير أن الجديد هو رد الفعل الصيني السريع بفرض رسوم مضادة بنسبة( 34%، 84%،125%) إلى جانب قيود على تصدير المعادن الأرضية النادرة، ما يُشير إلى أن بكين لم تعد تتعامل مع هذه الإجراءات كتكتيك ضغط فقط، بل كتحدٍ مباشر.
هذا التصعيد المتبادل يُدخل الأسواق في حالة من عدم اليقين، ويُبرز استعداد الطرفين للذهاب بعيدًا. فرغم تنوع اقتصادها، لا تزال الصين تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، لكن استثماراتها في جنوب شرق آسيا وتكتلات مثل البريكس قد تمنحها قدرًا من التحصين. من جانب آخر، إذا فُهمت التعريفات الأمريكية على أنها مناورة فقط، فقد يُغري ذلك الصين بمزيد من التصعيد لاختبار جدية إدارة ترامب.
ثالثًا: تقييم المرونة
يعكس هذا النهج التنفيذي مرونة كبيرة تمنح ترامب قدرة تفاوضية سريعة، بخلاف الإجراءات التشريعية المعقدة عبر الكونغرس. فخلال رئاسته السابقة، لجأ ترامب إلى تهديدات جمركية مع دول مثل الصين والمكسيك وكندا، حيث هدد بتعريفات قاسية ثم تفاوض على صفقات مثل اتفاقية USMCA (بديل NAFTA)، ما يُظهر أن السرعة تمنحه ميزة تفاوض من "موقع قوة".
ومع أن هذا النهج قد يثير حالة من عدم الاستقرار لدى الشركاء التجاريين، فإنه فعّال في تحقيق مكاسب سريعة أو إعادة تشكيل العلاقات التجارية. لكنه يثير جدلًا حول مدى استدامة تلك السياسات، مقارنة بالقوانين المؤسسية التي تحظى بإجماع أوسع وتُؤسس لاستقرار طويل الأمد.
رابعاً: تأثير على الصين وردود الفعل:
رغم الطابع التنفيذي للقرار الأمريكي، ردّت الصين بقوة غير مسبوقة، مما يشير إلى أن الصين تأخذ التهديد على محمل الجد. يعكس استراتيجية صينية تهدف إلى تعزيز موقفها في المفاوضات، يمكن قرأته من خلال التالي:
1- الرد بالمثل:
الرد الصيني لم يكن فقط تكتيكًا تجاريًا بل إعلانًا عن تحوّل في العقيدة الاستراتيجية الصينية مفادها: " لم نعد ذلك الاقتصاد الصاعد الذي يتحاشى المواجهة، بل أصبحنا نملك من أدوات القوة والتأثير ما يجعلنا قادرين على المجابهة حتى مع أكبر قوة في العالم". فقد قررت بكين تجاوز سياسة " التجنب والتكيف" إلى سياسة "المجابهة المحسوبة". ولعل الرسالة الأهم في هذا السياق هي أن الصين ترى نفسها اليوم ندًا اقتصاديًا واستراتيجيًا للولايات المتحدة، لا مجرد طرف فاعل في النظام الذي تقوده.
2- كسر مبدأ الإذعان.
السكوت عن الرسوم كان سيُعدّ تأسيسًا لسابقة خطيرة تُمكّن واشنطن من فرض شروطها دون تكلفة. وجاء الرد الصيني ليكسر هذا النمط، ويُبلغ العالم برفض بكين لأي إعادة تعريف قسري لعلاقاتها التجارية.
3- تكلفة محسوبة في مقابل الاستقلال الاستراتيجي:
كانت الصين تدرك التأثير المحتمل على التجارة، لكنها فضّلت تحمل الألم المؤقت على القبول بنظام تجاري قائم على الهيمنة الأمريكية. من خلال دعم الصناعات المحلية، وتوسيع أسواق التصدير، والاستثمار في الاستهلاك الداخلي، الاستقلالية المالية والاحتياطات الضخمة، تعمل بكين على تخفيف اعتمادها على السوق الأمريكية.
4- التوقيت مدروس:
اختارت الصين الرد في لحظة تشهد فيها نموًا اقتصاديًا قويًا، وتوسعًا عالميًا عبر مبادرة الحزام والطريق، وصعودًا تكنولوجيًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة والاتصالات. لتقول:"نحن لسنا فقط اقتصادًا متناميًا... بل مشروع استراتيجي بديل" هي ليست فقط مستعدة للصراع، بل تعتبره ساحة لإثبات موقعها في العالم الجديد. هذا يعني أن الصراع خرج من كونه نزاعًا تجاريًا، وأصبح صراعًا على قيادة النظام العالمي القادم.
5- من الناحية الجيوسياسية، (ثقة في موازين القوة):
الاقتصاد الأمريكي لم يعد قادرًا على تحمل صدمات كبرى دون ارتدادات داخلية (كما ظهر في اضطرابات سلاسل الإمداد والتضخم). العالم يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب، وهذا يعطي الصين مساحة أوسع للمناورة وبناء تحالفات اقتصادية وسياسية.
6- من نزاع تجاري إلى صراع هيمنة:
الرسوم الجمركية لم تعد أداة ضغط اقتصادي فحسب، بل أصبحت تجسيدًا لصراع على قيادة النظام الدولي. الرسوم الجمركية هي مجرد أدوات في صراع أكبر على من يضع قواعد التجارة، من يتحكم في التكنولوجيا، ومن يملك الكلمة العليا في الجغرافيا الاقتصادية للعالم.
خاتمة
أظهر الرد الصيني الحاد أنها لم تعد مستعدة لتقبل الضغوط الأمريكية بصمت، وبردها الحاسم لم تُرسل فقط إشارات واشنطن فقط بل إلى كل القوى الدولية: "نحن هنا"، ولسنا مجرد مصنع عالمي، بل مشروع استراتيجي بديل. وهذا يُعمق المواجهة ويجعلها أكثر من مجرد تفاوض ويضع العالم أمام منعطف تاريخي قد يؤسس لقطبية جديدة، تُعيد تشكيل النظام التجاري العالمي.
على المدى القصير، ستسود الأسواق حالة من عدم اليقين، أما على المدى البعيد، فقد يُسجل التاريخ أن لحظة المواجهة الجمركية بين بكين وواشنطن كانت الشرارة الأولى لتحول النظام الدولي يكون عنوانها: واشنطن وبكين.. من التنافس إلى الصدام.
بقلم/ د: يوسف شمسان المقطري