في عالمٍ تتشكلُ فيهِ التكتلاتُ والاتحاداتُ الإقليميةُ والدولية، وتتعززُ فيهِ أواصرُ التعاونِ في مختلفِ المجالات، وخاصةً في الجوانبِ العسكريةِ والأمنيةِ والاقتصاديةِ والسياسية، كما نرى في نموذجِ الاتحادِ الأوروبي، تبرزُ مفارقةٌ صارخةٌ في المشهدِ العربي. فبالرغمِ من الروابطِ التاريخيةِ والثقافيةِ واللغويةِ والدينيةِ التي تجمعُ الدولَ العربية، إلا أنَّ التعاونَ بينها، وخاصةً في الجانبينِ العسكريِّ والأمنيِّ، يظلُ محدودًا، ويُعاني من فجوةٍ واضحة، تُثيرُ التساؤلَ والاستغراب.
لماذا تتعثرُ مسيرةُ التعاونِ العسكريِّ والأمنيِّ بين الدولِ العربية، في حينَ تنجحُ تكتلاتٌ أخرى، ذاتُ خلفياتٍ تاريخيةٍ وثقافيةٍ مختلفة، في بناءِ هياكلَ تعاونٍ قويةٍ ومؤثرة؟ إنَّ الإجابةَ على هذا التساؤلِ المعقد، تكمنُ في مجموعةٍ من الأسبابِ المتداخلة، التي تتراوحُ بين العواملِ التاريخيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعية، بالإضافةِ إلى التأثيراتِ الخارجية.
أولاً: التركةُ التاريخيةُ المعقدة: لقد تركتْ حقبةُ الاستعمارِ آثارًا عميقةً على بنيةِ الدولِ العربية، حيثُ رُسمتْ حدودٌ مصطنعة، وزُرعتْ بذورُ الفرقةِ والانقسام، وشُجعتْ النزاعاتُ الحدوديةُ والمناطقية. هذه التركةُ التاريخية، لا تزالُ تُلقي بظلالها على العلاقاتِ بين الدولِ العربية، وتُعيقُ بناءَ الثقةِ المتبادلة، التي تُعدُ أساسًا لأيِّ تعاونٍ جاد، وخاصةً في المجالاتِ الحساسةِ كالأمنِ والدفاع.
ثانياً: تباينُ الأنظمةِ السياسيةِ واختلافُ المصالح: تتنوعُ أنظمةُ الحكمِ في الدولِ العربية، بين جمهورياتٍ وملكيات، وأنظمةٍ ذاتِ توجهاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مختلفة. هذا التباينُ يُؤدي إلى اختلافٍ في الأولوياتِ والمصالحِ الوطنية، وتنافسٍ على النفوذِ والزعامةِ الإقليمية، مما يُعيقُ التوصلَ إلى رؤيةٍ استراتيجيةٍ موحدة، وتحديدِ تهديداتٍ مشتركة، تتطلبُ تنسيقًا وتعاونًا عسكريًا وأمنيًا فعالاً.
ثالثاً: انعدامُ الثقةِ المتبادلةِ والشكوك: تُعدُ الثقةُ عنصراً حاسماً في بناءِ أيِّ تحالفٍ أو تكتلٍ ناجح. وفي السياقِ العربي، تُعاني العلاقاتُ بين بعضِ الدولِ من انعدامِ الثقة، وتراكمِ الشكوكِ حولَ نوايا بعضها البعض، مما يجعلُ تبادلَ المعلوماتِ الأمنيةِ الحساسة، أو التنسيقَ العسكريَّ المشترك، أمرًا صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر.
رابعاً: التدخلاتُ الخارجيةُ والارتباطاتُ الدولية: تلعبُ القوى الدوليةُ والإقليميةُ غيرُ العربية، دورًا كبيرًا في تعميقِ الانقساماتِ العربية، من خلالِ دعمِ أطرافٍ على حسابِ أخرى، وتشجيعِ سياساتِ "فرق تسد"، بالإضافةِ إلى بناءِ علاقاتٍ ثنائيةٍ قويةٍ مع دولٍ عربيةٍ منفردة، تُضعفُ الحاجةَ أو الرغبةَ في التعاونِ العربيِّ المشترك. كما أنَّ ارتباطاتِ بعضِ الدولِ العربيةِ بقوىً خارجية، قد تتعارضُ مع مصالحِ دولٍ عربيةٍ أخرى، مما يُعيقُ بناءَ جبهةٍ عربيةٍ موحدة.
خامساً: ضعفُ المؤسساتِ العربيةِ المشتركة: بالرغمِ من وجودِ مؤسساتٍ عربيةٍ جامعة، مثل جامعة الدول العربية، إلا أنَّ صلاحياتها غالبًا ما تكونُ محدودة، وقراراتها غيرُ ملزمة، وآلياتُ تنفيذها ضعيفة. هذا الضعفُ المؤسسي، يُعيقُ تحويلَ النوايا الحسنةِ إلى إجراءاتٍ عمليةٍ ملموسة، في مجالِ التعاونِ العسكريِّ والأمني.
سادساً: التفاوتُ الاقتصاديُّ والتنافسُ على الموارد: يُؤدي التفاوتُ الكبيرُ في المواردِ الاقتصاديةِ بين الدولِ العربية، إلى اختلافٍ في القدراتِ العسكرية، وتنافسٍ على المواردِ الطبيعية، مما قد يُعيقُ بناءَ شراكاتٍ متوازنةٍ وعادلة، في مجالِ الأمنِ والدفاع.
إنَّ غيابَ التعاونِ العسكريِّ والأمنيِّ الفعالِ بين الدولِ العربية، يُعرضُ المنطقةَ لمزيدٍ من الهشاشةِ والضعف، ويجعلها عرضةً للتدخلاتِ الخارجية، ويُعيقُ قدرتها على مواجهةِ التحدياتِ المشتركة، مثل الإرهاب، والجريمةِ المنظمة، والتهديداتِ الإقليمية. ولعلَّ ما نشهدهُ اليومَ من عدوانٍ إسرائيليٍّ غاشمٍ على غزة، وتصعيدٍ عسكريٍّ يستهدفُ اليمن، يُعدُّ من أبرزِ الشواهدِ على التكلفةِ الباهظةِ لهذه الفجوةِ العربية. فغيابُ الموقفِ العربيِّ الموحد، والقدرةِ الجماعيةِ على الردعِ أو التأثير، يُشكلُ بيئةً مواتيةً للقوى الخارجيةِ والإقليميةِ لفرضِ أجنداتها، وتجاوزِ الخطوطِ الحمراء، دونَ حسابٍ يُذكر.
إنَّ تجاوزَ هذه الفجوة، يتطلبُ إرادةً سياسيةً حقيقية، ومعالجةً جذريةً للأسبابِ الكامنة، وبناءَ الثقةِ المتبادلة، وتحديدَ رؤيةٍ استراتيجيةٍ موحدة، تُعلي من شأنِ المصلحةِ العربيةِ العليا.