تعيش المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة تحولًا لافتًا في سياستها الخارجية، جعلها محورًا رئيسيًا في جهود إحلال السلام العالمي. هذا التحول، الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان ضمن رؤية المملكة 2030، لم يقتصر على المحيط الإقليمي، بل امتد ليشمل التوازنات الدولية الأوسع، بما في ذلك النزاعات بين القوى الكبرى. وتُعد الأزمة الروسية الأوكرانية أبرز مثال على الحضور السعودي المتنامي في ساحات الوساطة العالمية.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، اتخذت المملكة موقفًا متزنًا، داعية إلى التهدئة، وحريصة على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع موسكو وكييف وواشنطن على حد سواء. وفي لحظة دولية بالغة التعقيد، عندما توقفت معظم قنوات الحوار بين روسيا والولايات المتحدة، تكثفت الجهود السعودية لتقريب وجهات النظر، ليس فقط بين موسكو وكييف، بل كذلك بين موسكو وواشنطن. وقادت المملكة، عبر لقاءات ومباحثات غير معلنة وأخرى مباشرة، جهودًا لجس نبض الأطراف حول إمكانية التهدئة، بما في ذلك استضافة محادثات ثنائية غير رسمية بين مسؤولين روس وأمريكيين، في محاولة لخفض التوتر واستكشاف نقاط التفاهم الممكنة.
في المقابل، لم تغفل الرياض عن تعزيز حواراتها مع الجانب الأوكراني، حيث أجرى الأمير محمد بن سلمان اتصالات متكررة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كما استقبلت المملكة وفودًا أوكرانية رسمية، وناقشت معها سبل دعم المبادرات الإنسانية والبحث عن مخارج سياسية للحرب. وشكّلت هذه اللقاءات أساسًا لعلاقات متوازنة مكنت الرياض من التوسط لاحقًا في صفقة تبادل أسرى ضمت جنسيات متعددة، في خطوة إنسانية لاقت إشادة دولية واسعة.
وفي إطار المساعي السعودية لاستعادة التوازن الإقليمي، جاءت زيارة صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلمان، وزير الدفاع، إلى طهران لتؤكد التزام المملكة الراسخ بخيار الحوار، حتى مع الأطراف التي طالما كانت العلاقات معها مشوبة بالتوتر. وقد مثّلت هذه الزيارة تطورًا بالغ الأهمية، إذ تمثل أول زيارة لمسؤول سعودي رفيع إلى إيران منذ استئناف العلاقات بين البلدين بوساطة صينية.
ما يعكس تحولًا استراتيجيًا في العلاقة بين الرياض وطهران، من المواجهة إلى التفاهم التدريجي. وتعزز هذه الخطوة رؤية المملكة للسلام، ليس كحل مؤقت للأزمات، بل كإطار دائم للاستقرار المشترك والتنمية الإقليمية.
ولعل الأهم في هذه المبادرات، أنها تأتي ضمن نهج سعودي جديد في السياسة الخارجية، يتجاوز التحالفات التقليدية نحو التوازن والانفتاح. فالمملكة التي تحافظ على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لا تتردد في تطوير علاقات قوية مع روسيا والصين، ما يمنحها مرونة دبلوماسية تؤهلها لأداء دور الوسيط المقبول من جميع الأطراف.
ولا ينفصل هذا الدور الدولي عن جهود المملكة في قضايا المنطقة، من اليمن والسودان، إلى المصالحة الخليجية واستعادة العلاقات مع دول مثل سوريا، فالمملكة، بقيادة الأمير محمد بن سلمان، أصبحت فاعلًا دبلوماسيًا متكاملًا، يستخدم أدواته السياسية والاقتصادية والإنسانية لبناء بيئة سلمية مستقرة، تخدم مصالح المنطقة والعالم.
ويعكس هذا الحضور الدولي رؤية المملكة 2030، التي تربط السلام بالتنمية، والاستقرار بالازدهار. إذ تدرك السعودية أن بيئة آمنة ومتصلة بالعالم هي أساس لأي طموح اقتصادي أو اجتماعي، وأن السلام لم يعد خيارًا أخلاقيًا فقط، بل هو مسار استراتيجي لبناء المستقبل.
إن المملكة العربية السعودية، من خلال هذه الوساطات المتقدمة، وترسيخها لسياسات الحوار والتقارب، ترسّخ نفسها اليوم كمركز توازن في نظام دولي مضطرب، وقوة ناعمة تجمع بين الحزم والرؤية، بين الاعتدال والتأثير، لتكون بحق محورًا حقيقيًا للسلام العالمي.