كثيرًا ما عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استيائه من قوة الدولار، معتبرًا أن العملات الأخرى تُدار بطرق تعطي ميزة تنافسية غير عادلة لمصدّري تلك الدول، ورغم الجاذبية السياسية والاقتصادية لفكرة خفض الدولار مغريًا لزيادة التصدير وتقليل العجز، إلا أن الواقع الاقتصادي والمؤسسي والقانوني يجعل من ذلك خيارًا محفوفًا بالمخاطر، ومحدود الجدوى. فالدولار ليس مجرد عملة محلية، بل هو العمود الفقري للنظام المالي العالمي، وأي تلاعب متعمد به قد يؤدي إلى عواقب سلبية تشمل التضخم، اضطراب الأسواق، وفقدان الثقة الدولية.
رغم الضغط السياسي المتكرر لترامب، إلى أنه لم ينجح في فرض تخفيض مباشر للدولار، ومع هذا يمكنه الضغط سياسيًا عبر التصريحات، أو التأثير غير المباشر على الخزانة أو الأسواق، ومع ذلك، ساهم خطاب ترامب أحيانًا في خلق تقلبات في توقعات الأسواق، وهو ما يبرز كيف تؤثر النوايا السياسية حتى دون تنفيذ فعلي، ولكن دون ضمان نتائج فورية أو مستدامة. في هذا المقال نقدم قراءة في جدلية ترامب لخفض الدولار الأمريكي:
أولاً: المعوقات المؤسسية والسياسية:
1- استقلالية الاحتياطي الفيدرالي (Fed):
الفيدرالي هو المسؤول عن السياسة النقدية، ولا يملك الرئيس سلطة مباشرة لإجبار الفيدرالي على اتخاذ قرارات تخفض قيمة الدولار.
2- صلاحيات وزارة الخزانة محدودة:
تدخل وزارة الخزانة في سوق العملات محدود جدًا ويجب أن يكون مبررًا وتحت رقابة الكونغرس في حالات معينة. أما "صندوق تثبيت الصرف" التابع لها فهو لا يتيح تحركات ضخمة لإضعاف العملة دون تداعيات سياسية واقتصادية.
3- القوانين التجارية والمالية:
التدخل الصريح لتخفيض الدولار قد يُفسر كممارسة تنافسية غير عادلة في التجارة الدولية، ما قد يعرض الولايات المتحدة لإجراءات من قبل شركائها التجاريين أو أمام منظمة التجارة العالمية.
4- مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية:
هناك طلب عالمي كبير على الدولار يمثل 59% من الاحتياطيات العالمية طبقا لمسح صندوق النقد الدولي، ما يصعّب إضعافه عمدًا"، وأي تلاعب أو تخفيض متعمد بقيمته يهدد ثقة البنوك المركزية والمستثمرين العالميين، وإذا فقد المستثمرون ثقتهم بالدولار، قد يفرّون منه، مما يؤدي إلى ارتفاع العوائد على السندات وارتفاع تكلفة خدمة الدين الأمريكي وقد تقوض الثقة بالاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل.
5- ردة فعل الأسواق:
أي تخفيض مقصود قد يُفسر من الأسواق المالية كخطر على الاستقرار، يدفع رؤوس الأموال إلى الهروب، ورفع تكلفة الدين.
6- ردود فعل الحلفاء والمنافسين:
إذا حاولت واشنطن خفض الدولار عمدًا، قد ترد الدول الأخرى بخفض عملاتها، مما يؤدي إلى "حرب عملات"، وقد تُتهم الولايات المتحدة بتقويض قواعد النظام المالي الدولي الذي ساعدت في تأسيسه.
7- الكونغرس والضغط الداخلي:
تخفيض الدولار قد يزيد أسعار الواردات، وبالتالي التضخم، ما يثير سخط الرأي العام والكونغرس.
ثانيا: المعوقات الاقتصادية والهيكلية:
هذه المعوقات مرتبطة بالواقع الاقتصادي الأمريكي ودور الدولار عالميًا، وهي معقدة لكنها مهمة لفهم حدود المناورة، في ظل عجز بلغ في الميزان التجاري (1.2) ترليون دولار نهاية عام 2024م. أهمها:
1- ارتفاع معدلات الاستيراد: تخفيض الدولار يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وبالتالي زيادة التضخم الداخلي.
2- ارتفاع معدلات الاستهلاك وضعف قاعدة التصدير في بعض القطاعات:
حتى مع تخفيض الدولار، لا توجد قاعدة تصدير قوية كافية في بعض القطاعات لتعويض ارتفاع تكلفة الاستيراد، مع ارتفاع نسبة الاستهلاك الامريكي الى 70%.
3- عبء الدين العام:
أمريكا لديها دين عام ضخم يناهز 36 تريليون دولار نهاية عام 2024م ، وتخفيض الدولار يؤدي إلى؛ ارتفاع العائد المطلوب من المستثمرين لشراء السندات وزيادة تكلفة تمويل هذا الدين.
4- التضخم ورد فعل الفيدرالي:
خفض الدولار سوف يرفع أسعار الواردات، ما يؤدي إلى ضغوط تضخمية. وهنا سيتدخل الفيدرالي عبر رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، ما يعكس أثر تخفيض الدولار ويقويه مجددًا.
5- ثقة المستثمرين الأجانب:
الدولار كسب قوته من الثقة وأي تلاعب بالدولار قد يهدد تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، التي تُعد ضرورية لتمويل العجز.
ثالثا:حدود التنبؤ في ظل عدم اليقين:
في بيئة عدم اليقين، تفقد النظريات الاقتصادية التقليدية – مثل المدرسة الرشيدة – الكثير من قدرتها التفسيرية لتحليلات السياسات النقدية. فرغم افتراضها لعقلانية الفاعلين وقدرتهم على التنبؤ والتكيف، إلا أن الواقع يُدار غالبًا بردود فعل غير متوقعة، وسلوكيات غير عقلانية، يكشف عن فجوة كبيرة بين النماذج والنمط الفعلي يتأثر بالعواطف والمضاربات والمواقف للسلوك الاقتصادي والسياسي، ومنها:
1- اللايقين الاستراتيجي: (المدرسة الرشيدة مقابل اللايقين السلوكي والسياسي)
عنصر المفاجأة في خفض الدولار قد يؤدي إلى ردود فعل متباينة وغير متوقعه من الفدرالي، سواء من الدول أو المستثمرين وليس وفق المدرسة الرشيدة.
2- ردود الفعل الدولية غير نمطية:
الصين، الاتحاد الأوروبي، اليابان، وحتى الأسواق الناشئة، تراقب أكثر من مجرد سعر الصرف، وقد ترد بتحالفات أو إجراءات انتقامية. بحيث يصعب التوقع والتخمين وتكون النتيجة؛ لا يمكن توقع رد الفعل بسيناريو خطّي أو رشيد بالكامل، بل قد نواجه:
• ردود فعل انتقامية أو احترازية.
• تصعيد في المضاربة المالية أو تحويلات مفاجئة في رؤوس الأموال.
• وتشكل تحالفات مالية جديدة أو اتفاقات للتحوّط من الدولار.
3- اللايقين المالي والسلوكي عند المستثمرين:
في فترات عدم اليقين، لا يتصرف المستثمرون بطريقة "رشيدة"، وتتسم الأسواق المالية بسلوك "القطيع"، حيث يؤدي التخوف أو الطمع إلى تضخيم الأثر بشكل لا يمكن التنبؤ به، مما يولد حلقات تغذية راجعة يصعب التحكم بها.
4- دور التوقعات الذاتية والتأطير السياسي:
إذا فُسر التخفيض كعلامة على الضعف الاقتصادي وبداية تخبط مالي أو انهيار الثقة، فقد يتسبب بذعر مالي بدلًا من تحسين الميزان التجاري.
5- حتمية تشكيل نظام نقدي بديل:
استمرار التلاعب بالدولار قد يعجل من جهود بعض الدول للتحوّط من الدولار والتعجيل في تأسيس نظام مالي جديد بديل.
خلاصة واستنتاجات:
لا يمكن التعامل مع خفض العملة كأداة تقنية بحتة رشيدة، بل هي سلوك سياسي واستراتيجي له تبعات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة. فرغم أن الأهداف المعلنة مثل تحسين الصادرات وتقليص العجز تبدو مغرية، إلا أن المخاطر المرتبطة بها – من فقدان الثقة إلى اندلاع حروب عملات – تتطلب تحليلًا متعدد الأبعاد يأخذ في الاعتبار:
أ- تعقيد النظام النقدي الدولي.
ب- سلوكيات السوق غير الرشيدة.
ج- التفاعلات غير الخطية بين السياسة والاقتصاد.
د- ضرورة وجود سيناريوهات بديلة وخطط استشرافية مرنة.
وعليه، فإن خفض الدولار في ظل النظام الأمريكي والعالمي الحالي ليس قرارًا اقتصاديًا صرفًا، بل لعبة توازن دقيقة بين الاقتصاد والسياسة والثقة الدولية.
د. يوسف شمسان المقطري
دكتوراه في: اقتصاد الحرب والتعافي بعد الصراع.
ماجستير في الاقتصاد الدولي( سعر الصرف)