منذُ فوضى ٢٠١١م وسقوط مؤسسات الدولة في العام ٢٠١٤م، لم يدخل اليمن طور الاستقرار كما بشر خصوم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، بل انفتح باب الصراع على مصراعيه، ودخلت البلاد في نفقاً طويلاً من الحرب والصراع، حتى أن الشمس لم تعد تشرق كما اعتادت، بل خرجت متعبة، شاحبة كأنها لا تجد ما يستحق أن تُضيء له، أصبحت البلاد اليوم كلها صامتة، ليس صمت السلام، بل صمت ما بعد الانفجار، حتى أن الناس باتت تمشي اليوم بلا ذاكرة، حين ايقنت بأن الوطن لم يُسرق منا دفعةً واحدة، إلا حينما سُرق من داخلنا وتخلى عنه الجميع.
في الزاوية الأخرى من الوطن، كان الرئيس صالح يخطب بالناس على منصة خشبية، تحيط به الملايين، والهتافات، كان يحذر الناس دوماً من مخطط الحروب والصراعات والتقسيم، لكننا اليوم وقعنا فيما كان يحذرنا منه، سقطت صنعاء حين صدق البعض بأن الوطن عبارة شعارات وساحات وخيم، لا فكرة، وبأن الأيديولوجية أهم من المواطن ومصالح المواطنين، والآن لم يتبقى من الوطن إلا التراب، ولا أحد يعرف لمن ينتمي.
اليمن كدولة لم يكتمل بعد، ما بعد الرئيس صالح لم يكن تحولاً ديمقراطياً، بل إلى صراع بين مشاريع مختلفة: مشروع ديني متطرف تقوده جماعتي الحوثي والإخوان ( حزب الإصلاح) الأول أتخذ من العاصمة صنعاء مركزاً له، والآخر اتخذ من مأرب مركزاً له ولجماعته، ومشروع تقوده شخصيات مهترئة في جنوب الوطن تدور حول نفسها، بالإضافة إلى تدخلات إقليمية تسعى لرسم خريطة جديدة للنفوذ.
الحرب في اليمن لم تكن يوماً داخلية، بل كانت لها امتداد إقليمي ودولي عريض، كانت تتحكم في المشهد مباشرة أو عبر وكلاء، وهنا يظهر البُعد الفلسفي لقيمة وجود الدولة وإن كانت ظالمة، وبدليل أن بعد رحيل الرئيس صالح، لم تنبثق سلطة بديلة قادرة على إعادة بناء العقد الاجتماعي، بل دخلت البلاد في صراع بين قوى متعددة، كلاً منها تدعي تمثيل اليمن، وفق تصوراتها الخاصة، شرعية منفية تحولت إلى أداة صراع سياسي، وميليشيا قذرة تُسيطر على صنعاء وعدن ومأرب وتعز، وقوى قبلية وعسكرية تتنازع على النفوذ في الهوامش.
يسأل أحدهم هل مات صالح أم ماتت الدولة؟
والحقيقة أن رحيل صالح كان رحيل للوطن، لم يعد شيء واضحاً، تعددت الوجوه التي تدعي أحقية الحكم، وتعددت الرايات، وتكاثرت الحواجز في الشوارع والمدن، جماعة ترفع شعار الموت، وأخرى ترفع شعار التشرذم والتفتيت، وفي المدن والقرى كانت الأمهات يُجهزن أبناءهن للرحيل، لا للمدارس، بل لجبهات القتال، وبعد عشر سنوات من الحرب والاقتتال والدمار، لم نعد نميز بين ضجيج الطائرات وصرير أبواب المنازل، الجميع يتحدث عن افضليتهِ، لكن لا أحد ينظر في عيون الجائعين، بعد أن أصبح الوطن لديهم مجرد جثة هالكة كل طرف يريد تقطيعها على مزاجه.
صنعاء لم تعد صنعاء، ولا الجنوب بات جنوب، كنا نحارب لأجل تجنيب الوطن كل هذا الدمار فابتلعنا الفراغ، فراغ الدولة والرجال، فراغ القادة والقيادة، صالح كان ديكتاتوراً يقول أحدهم: لكنه كان السكينة والطمأنينة التي نفتقدها اليوم، أحدهم كتب على جدار منزله في صنعاء، كلنا خسرنا، حتى المنتصر يبدو مهزوماً وهو يرفع رايته فوق ركام، وربما هذه العبارة التي تخنقنا تختصر كل الحديث.
اليوم أُتيحت الفرصة، فرصة التحرير والعودة، فرصة استعادة صنعاء، حيثُ البرد يهمس برقة والضباب يُعانق المآذن، صنعاء الذي يمر الزمان على خاصرتها فلا يجرؤ أن يُغيّرها، ولذا من تتوفر لديه اليوم الثوابت الوطنية فقد أُتيحت له الفرصة لتحرير اليمن، هذه الفرصة الأخيرة، والطلقة الأخيرة لاستعادة الدولة، الطلقة الأخيرة لإنقاذ الجمهورية وحياة ملايين اليمنيين، الطلقة الأخيرة لاستعادة السيادة والكرامة، عليكم إثبات وجودكم اليوم وفوراً، لأن ما بعد هذه الفرصة لن يكون لكم وطن في حال تخاذلتكم كما جرت العادة، وإن كانت هنالك ضغوطات خارجية تُعيق تحركاتكم كما يقول البعض، فلتتحدوا جمعياً من أجل اليمن.