آخر تحديث :السبت-03 مايو 2025-08:51ص

المحافظات المحررة تلفظ أنفاسها في ظل شرعية غائبة وفساد متوحش

الأربعاء - 30 أبريل 2025 - الساعة 03:30 م
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


في خضم الحرب الطويلة التي أنهكت اليمنيين وأثقلت كاهلهم، لم يكن أحد يتوقع أن تتحول المحافظات “المحررة” إلى مرادف آخر للخراب والانهيار والفقر المدقع. فبينما كان الأمل يحدو الملايين بأن يكون تحرير هذه المحافظات بدايةً لاستعادة الدولة وإعادة بناء الوطن، فإذا بها تتحول إلى كابوس آخر يسكن تفاصيل حياة الناس اليومية، بفعل غياب الدولة، وهيمنة الفساد، وتفكك مؤسسات ما تبقى من شرعية. في هذه المناطق، يغيب كل ما يمكن أن يُعدّ من مظاهر الدولة: الخدمات في انحدار متواصل، الكهرباء تكاد تكون من الذاكرة، المياه لا تصل إلا نادرًا، التعليم يتداعى، والقطاع الصحي في حالة موت سريري. الريال اليمني يتهاوى أمام العملات الأجنبية في تدهور أسبوعي مستمر، حتى بات المواطن غير قادر على تأمين أبسط ضروريات الحياة من غذاء ودواء. هذا الانهيار الاقتصادي ليس مجرد أرقام في سوق الصرف، بل هو واقع يعيشه الناس كل يوم، حيث الجوع أصبح ضيفًا دائمًا في كل بيت، والكرامة تتآكل أمام طوابير الخبز وانقطاع الرواتب. والكارثة لا تقف عند حدود الاقتصاد، بل تتعداها إلى التدهور الأمني المريع. إذ تشهد هذه المحافظات انفلاتًا أمنيًا متزايدًا، حيث تنتشر الجريمة المنظمة، ويتسع نطاق تجارة المخدرات، وتتراجع سلطة القانون لصالح عصابات ونافذين محميين من مسؤولين نافذين في الحكومة. لم تعد الشوارع آمنة، ولم تعد البيوت مطمئنة، ولم تعد المدن تعيش بل فقط تحاول أن تبقى على قيد الحياة. في مقابل هذا المشهد المروع، يخرج علينا بعض أعضاء المجلس الرئاسي اليمني، وكبار مسؤولي الحكومة، ليحدثونا عن مشاريع “تحرير صنعاء” ! فبأي منطق يمكن أن تُبشَّر الشعوب بإستعادة الجمهورية والانتفاضات والتحرير، وهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ؟ بأي مشروع يمكن أن تُخاطب جماهير منهكة، لم تعد تملك ثمن رغيف الخبز أو جرعة الدواء ؟ كيف يمكن أن يُطلب من الشعب أن يثور أو يقاتل أو ينهض، بينما هو عاجز عن توفير ساعة كهرباء واحدة لأطفاله في اليوم ؟ أو شربة ماء نظيف ؟ بأي خطاب وطني تُستثار الحناجر، وأبسط مقومات الكرامة الإنسانية مهدورة أمام أعين الجميع ؟ إن ما يجري اليوم في المحافظات المحررة هو جريمة مكتملة الأركان بحق شعب أعزل. جريمة لا يرتكبها الانقلابيون وحدهم، بل تشارك فيها سلطة شرعية غارقة في الغياب، عاجزة عن تحمل مسؤولياتها، بل وأكثر من ذلك، متورطة في تكريس الفساد وتسهيل الإفساد. المشهد برمّته يؤكد أننا لسنا أمام أزمة اقتصادية فقط، بل أمام انهيار أخلاقي وإداري وسياسي شامل. فحين تفقد الدولة شرعيتها أمام شعبها، لا بفعل الاحتلال، بل بفعل الجوع والخذلان، تصبح كل شعارات التحرير والاستعادة والشرعية مجرد عبارات جوفاء، لا تثير إلا السخرية والألم. آن للشرعية أن تعترف بأن فشلها في إدارة المحافظات المحررة، لا يقل كارثية عن انقلاب الميليشيات في صنعاء. آن لها أن تخجل من خطاب التحرير، وهي عاجزة عن تحرير لقمة العيش من بين أنياب الجوع. فالشعب الذي يُطلب منه الصمود، لا يصمد على الشعارات، بل على واقع يحفظ كرامته ويضمن بقاءه. وإن استمرت الأوضاع بهذا الانحدار، فإن القادم لن يكون سوى قاع أعمق، لا يملك فيه أحد ترف الكلام عن التحرير أو البناء، لأن الشعب المنكوب سيتحول من جمهور منتظر إلى غضب عارم لا يُبقي ولا يذر. إن الصمت على هذا الانحدار خيانة، والتغاضي عنه مشاركة في الجريمة. وإذا استمرت الأوضاع على هذا النحو، دون تصحيح مسار جذري، فاليمن قادم على فوضى مجتمعية وانفجار شعبي لا أحد يستطيع التنبؤ بحجمه ولا السيطرة عليه. فالشعب الذي خسر كل شيء، لن يخسر كثيرًا إن قرر أن يقول كلمته. ولن يقبل أن تستمر فئة قليلة في السلطة، تتقاسم الثروات والمناصب، بينما هو يموت جوعًا وإذلالًا كل يوم. فلتتوقف خطابات التحرير، حتى يُحرَّر رغيف الخبز من بين أنياب الفقر، وحتى تُستعاد كرامة الناس من أفواه الجوع، وحتى تُحرر مؤسسات الدولة من براثن الفساد.


هذا هو التحرير الذي يجب أن يبدأ، وإلا فإن كل حديث غير ذلك، ليس سوى عبث مهين بوطنٍ يُذبح ببطء، وشعبٍ يُدفن حيًا.