آخر تحديث :السبت-10 مايو 2025-04:10م

وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ

الخميس - 01 مايو 2025 - الساعة 02:42 م
د. سعيد سالم الحرباجي

بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب


 


تابعت - كغيري - ما تم تداوله في مواقع وسائل التواصل الاجتماعي عن حادثة الإعدام بحق أحد الجناة في محافظة لحج والذي حُكِم عليه رمياً بالرصاص حتى الموت .


والحقيقية أنَّ تلك اللحظات كانت مؤثرة جداً ،هزت أركان ساحة التنفيذ هزاً ، وألهبت مشاعر الحاضرين ، وآلمت نفوسهم ، وأدمت قلوبهم ...

حاول خلالها الحاضرون أن يثنوا أولياء الدم عن تنفيذ حكم القصاص ، والجنوح للعفو ، والقبول بالدية ...إلا أنهم لم يصغوا إلى كل تلك التوسلات ، ولم يقبلوا كل تلك النداءات ، وأصروا على تنفيذ الحكم .


ولكن المنظر الأشد تأثيراً ...كان منظر الجاني وقد جيء به إلى ساحة الموت ، يرقب بعينيه تلك

اللحظات الأخيرة للحياة ، وينظر إلى ملك الموت وقد تحفَّز لقبض روحه ، وتوفَّز لإنهاء حياته ، وهو في حالة ندم ، واستسلام ، وذل ، وهوان ، ورعب ، وخوف ، وعجز ، وخور .


ثم في لحظات غاية في الصعوبة يرمي بنفسه على

فراش الموت ويداه مربوطتان إلى ظهره وقد

وضع وجهه إلى الأرض ينتظر الطبيب الشرعي كي يضع العلامة لتنفيذ الرمي .


فيالها من لحظات قاسية ، مفزعة ، مخيفة ، أليمة ، عسيرة على النفس .


كل ذلك الشقاء ، وكل ذلك البلاء ، وكل تلك الآلام التي يتجرعها في تلك الساعة ....

كان سببها نزوة نفس ، وحمية جاهلية ، وتصرف أحمق ، وطيش ، وسفه ، وسخف ، وغباء ...

أعمى بصره ، وبصيرته ، وفي فورة غضب أقدم على إزهاق روح بغير ذنب وسفك دماء بغير حق ، وتعدى على

مسلم بغير سلطان ..

لذلك كان الجزاء في حقه وفاقا .


ومع ذلك ورغم تلك المشاعر العاطفية التي تنتاب كل ذي قلب وهو يرقب تلك اللحظات العسيرة للجاني ، وهو يجر ذليلاً إلى ساحة الموت ....

إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى قال عن القصاص أنه حياة .


ولكم في القصاص حياة

والمراد من الحياة في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء .


فالانسان الذي يوقن أنه سيدفع حياته ثمناً لحياة من يقتله..... لجدير به أن يتروى ويفكر ويتردد ألف مرة ، ومرة قبل أن يقدم على سفك دم إنسان بغير حق .


وهنا يتحقق مقصود( الحياة ) في الآية الكريمة.

فإذا كف الجاني عن ارتكاب جريمة القتل إبتداءً....

ففي ذلك ضمان لحياته ، وضمان لحياة غيره .


كما تنبثق الحياة من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل .

فإذا اطمئن أولياء المقتول أنَّ القاتل سيأخذ جزاءه على فعلته الشنيعة ..

ستشفى صدورهم من الحقد ، وسيسلم الكل من لوثة الثأر الخبيثة .


الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس ، وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلاً بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل .

وذلك نتيجة عدم تنفيذ حكم القصاص الشرعي .


هذا هو حكم الحكيم سبحانه ، الحكم العدل .

وهذا هو سر تشديد الشرع على ضرورة تنفيذ القصاص بكل أشكاله ..قال تعالى:

وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ

وهكذا يتبين أنَّ القصاص ليس انتقاماً ، وليس إرواءً للأحقاد.....وإنما هو أجل من ذلك وأعلى ....

إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة .

ثم إنَّه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله...

وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : ( لعلكم تتقون ) 


هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء ...

الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً ..

التقوى ... حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله ؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه . 

إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان ! 

وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي [ ص ] وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختارا .


لقد كانت هنالك التقوى.... كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود .... إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب .

وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور ،نظيف الحركة نظيف السلوك ، لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير !