آخر تحديث :الجمعة-09 مايو 2025-08:42م

اليمن في فمِ المعاناة.. حيثُ يهرولُ الريالُ وتُحلقُ طائراتُ الموت.. وطنٌ ينزفُ تحتَ سياطِ القهر

الخميس - 01 مايو 2025 - الساعة 03:10 م
علوي سلمان

بقلم: علوي سلمان
- ارشيف الكاتب


في جنوبِ الوطنِ ومناطقِ الساحل، لا يهرولُ الريالُ اليمنيُّ هرولةَ الهاربِ فحسب، بل ينهارُ كجدارٍ قديمٍ أمامَ عاصفةٍ هوجاءَ اسمها "جبروتُ العملاتِ الأخرى". كلُّ نقطةٍ يفقدها الريالُ هي طعنةٌ جديدةٌ في خاصرةِ المواطنِ المنهك، تتسعُ معها هوةُ الفقرِ لتُصبحَ فمًا غائرًا يبتلعُ ما تبقى من كرامةٍ وقدرةٍ على الصمود. مرارةُ العيشِ هنا ليستْ مجردَ شعور، بل هي واقعٌ يوميٌّ قاسٍ، يُترجمُ إلى بطونٍ خاويةٍ لا تجدُ ما يُسدُّ رمقها، وأسرٍ كاملةٍ تُصارعُ شبحَ الجوعِ في صمتٍ مُطبق، لا تملكُ سوى النظرِ إلى السماءِ بعيونٍ غائرةٍ ترجو رحمةً لا تأتي من الأرض. إنها ليستْ مجردَ أرقامٍ في تقاريرَ اقتصاديةٍ باردة، بل هي قصصُ معاناةٍ تُكتبُ بدموعِ الأمهاتِ التي جفتْ، وصمتِ الأطفالِ الذينَ نسوا طعمَ الضحك، لوحةٌ سوداءُ تُجسدُ حجمَ الألمِ والمعاناةِ التي تُطبقُ على أنفاسِ شعبٍ أنهكتهُ الحروبُ والانهيارُ الاقتصاديُّ الممنهج.


وعلى مقلبٍ آخرَ من هذهِ المأساةِ المتشعبة، تقفُ خيامُ النزوحِ كشواهدَ صامتةٍ على أحلامٍ تحطمتْ على صخرةِ الصراعِ الطويلِ الذي لا يرى لهُ نهاية. أسرٌ اقتُلعتْ من جذورها، تُرِكتْ خلفَ خطوطِ النار، عاشتْ على أملِ العودةِ إلى مساكنها التي أصبحتْ مجردَ ذكرياتٍ مؤلمة، ولكنَّ طولَ أمدِ الحربِ، وتعقيدَ المشهدِ السياسيِّ والعسكري، حالَ بينها وبينَ ديارها، فاستسلمتْ لمرارةِ الواقعِ الجديدِ في مدنٍ من القماشِ واليأس. في تلكَ المخيماتِ المتراميةِ الأطراف، تُحيطُ بهم ثلاثيةٌ قاسيةٌ لا ترحم: بردُ الليلِ الذي يتسللُ إلى العظامِ النحيلةِ كعدوٍّ خفي، شمسُ النهارِ التي تُلهبُ الوجوهَ المتعبةَ وتُجففُ ما تبقى من رطوبةٍ في الأجساد، وشظفُ المعيشةِ الذي يُجففُ منابعَ الحياةِ ويُحولُ كلَّ يومٍ إلى معركةٍ من أجلِ البقاء. يعيشونَ بينَ الخوفِ الدائمِ من المجهولِ الذي قد يحملُ قصفًا أو اشتباكًا، وألمِ الفقدِ الذي لا يندمل، ومعاناةِ الحرمانِ التي لا تنتهي، ينتظرونَ بصيصَ أملٍ لا يكادُ يلوحُ في الأفقِ الملبدِ بالغيوم، في مشهدٍ يُلخصُ حجمَ القهرِ والتشردِ الذي يُعانيهِ ملايينُ اليمنيينَ الذينَ أصبحوا مجردَ أرقامٍ في قوائمِ المساعداتِ الإنسانيةِ التي لا تصلُ دائمًا.


وفي خضمِّ هذا الألمِ المتراكمِ والمعاناةِ التي تُطبقُ على الأنفاسِ حتى كادتْ تخنقها، يُثيرُ الدهشةَ والاستغرابَ، بل والغضبَ المرير، أنَّ هناكَ أصواتًا يمنيةً، من هنا وهناك، لا تزالُ تدعو وتُبشرُ بقدومِ حربٍ أهليةٍ جديدةٍ "لا تُبقي ولا تذر". كأنَّ سنواتِ الصراعِ الماضيةِ، بكلِّ ما حملتهُ من دمارٍ وموتٍ وجوع، لم تكنْ كافيةً لتعليمِ الدرسِ القاسي، وكأنَّ مشاهدَ الجوعِ والنزوحِ والدمارِ التي تُعرضُ على شاشاتِ العالمِ لم تُشبعْ نهمَ الدعاةِ إلى مزيدٍ من القتالِ على أنقاضِ وطنٍ يحتضر. إنها دعواتٌ تُنذرُ بإضافةِ سنواتٍ أخرى من المعاناةِ والتعذيبِ والقهرِ والجوعِ والألم، في تجاهلٍ صادمٍ لواقعٍ ينزفُ ودماءٍ تُسال، وفي رغبةٍ غريبةٍ في إدخالِ البلادِ في دوامةٍ من الصراعِ المستمرِ وخيمِ العواقبِ وغيرِ مأمونِ النتائج. هذا التناقضُ الصارخُ بينَ حجمِ المعاناةِ التي يعيشها الشعبُ والدعوةِ إلى المزيدِ منها يُظهرُ حجمَ الانفصالِ عن الواقعِ الذي يُعانيهِ البعضُ ممن يُتاجرونَ بآلامِ الناسِ لتحقيقِ مكاسبَ سياسيةٍ ضيقة، ويُضاعفُ من مرارةِ المشهدِ ويُقوضُ أيَّ أملٍ في مستقبلٍ أفضل.


ويتزامنُ كلُّ هذا، معَ عدوانٍ غاشمٍ وقصفٍ متواصلٍ تشنهُ الطائراتُ الأمريكيةُ، التي تُحلقُ في سماءِ اليمنِ كصقورِ الموت، على العاصمةِ صنعاءَ وضواحيها، وعلى مدنٍ يمنيةٍ أخرى، مُخلفةً وراءها أعدادًا من القتلى والجرحى في صفوفِ المواطنينَ الأبرياءِ الذينَ لا ناقةَ لهم ولا جملَ في هذهِ الصراعاتِ الدوليةِ والإقليمية. كأنَّ الجوعَ والنزوحَ والصراعَ الداخليَّ لم تكنْ كافيةً لإكمالِ فصولِ المأساةِ اليمنية، فجاءَ القصفُ الخارجيُّ ليُضيفَ فصلًا جديدًا من الدمارِ والألمِ، وليُؤكدَ أنَّ اليمنَ باتَ ساحةً مفتوحةً لكلِّ أنواعِ النيران، تُحلقُ فوقها طائراتُ الموتِ لتُزهقَ أرواحًا أنهكتها الحياةُ قبلَ أن تُنهيها القنابل. هذا التدخلُ الخارجيُّ، الذي يُضافُ إلى طبقاتِ المعاناةِ الداخليةِ المتراكمة، يُعقدُ المشهدَ أكثرَ ويُقللُ من فرصِ التوصلِ إلى حلولٍ سلميةٍ تُنهي هذا الكابوس، ويُرسخُ فكرةَ أنَّ اليمنَ أصبحَ مجردَ ورقةٍ في صراعاتِ القوى الكبرى، يُدفعُ شعبها الثمنَ الأغلى.


في هذا المشهدِ القاتمِ الذي تتداخلُ فيهِ خيوطُ المعاناةِ لتُشكلَ لوحةً سوداءَ تُدمي القلوبَ وتُبكي الحجر، فقرٌ ينهشُ الأجسادَ ويُهينُ الكرامة، ونزوحٌ يُشتتُ الأسرَ ويُقتلُ الأمل،


ودعواتٌ للحربِ تُنذرُ بالمزيدِ من الدمارِ والخراب، وقصفٌ خارجيٌّ يُزهقُ الأرواحَ ويُعمقُ الجراح. اليمنُ اليومَ يُعاني من كلِّ الجهات، يُصارعُ من أجلِ البقاءِ في فمِ المعاناةِ الذي يبتلعهُ ببطء. حجمُ الألمِ والمعاناةِ هنا يتجاوزُ الكلماتِ والأرقام، إنهُ يُشكلُ جرحًا عميقًا في جسدِ الإنسانيةِ جمعاء، صرخةً مدويةً في وجهِ عالمٍ يُشاهدُ ويصمت، ينتظرُ ضميرًا عالميًا يستيقظُ من سباتهِ العميق، أو إرادةً وطنيةً تتحدُ فوقَ كلِّ الانقساماتِ لتُوقفَ نزيفَ الدمِ والدمار، وتُعيدَ لليمنِ بعضًا من كرامتهِ وسلامهِ المفقود، قبلَ أن تُصبحَ اليمنُ مجردَ ذكرى لأمةٍ كانتْ هنا ذاتَ يوم.