في الثالثِ من مايو من كلِّ عام، يرتفعُ صوتُ العالمِ مُحتفيًا باليومِ العالميِّ لحريةِ الصحافة. تُلقى الخطاباتُ، وتُعقدُ الندواتُ، وتُرفعُ الشعاراتُ التي تُعلي من شأنِ الكلمةِ الحرةِ ودورها في بناءِ المجتمعاتِ وتنويرِ العقول. ولكن، أيُّ يومٍ عالميٍّ لحريةِ الصحافةِ هذا نحتفي بهِ نحنُ العرب؟ وأيُّ معنىً لهذا الاحتفاءِ في ديارٍ تُكبلُ فيها الأقلامُ، وتُكممُ فيها الأفواه، وتُسجنُ فيها الكلمةُ الصادقة؟
تئنُّ جدرانُ السجونِ في مصرَ أمِّ الدنيا، وفي الأردنِ وتونسَ والجزائرَ واليمنِ والسعوديةِ والإماراتِ ودولٍ عربيةٍ أخرى، تشكو الضيقَ من أجسادٍ أنهكتها السنون، لصحفيينَ قابعينَ خلفَ القضبانِ منذُ سنواتٍ طوال، والبعضُ منذُ عقودٍ من الزمن. يرزحونَ تحتَ سياطِ الظلمِ والعقابِ والحسابِ داخلَ أروقةٍ لا ترى نورَ الشمس، يتلقونَ التعذيبَ والتنكيلَ لمجردِ أنهم تجرأوا على قولِ الحقيقةِ أو نقدِ الواقعِ أو التعبيرِ عن رأيٍ لا يُرضي السلطان.
وفي المقابل، نجدُ صحفيي السلطة، أولئكَ الذينَ أتقنوا فنَّ التبعيةِ العمياء، وأداروا أقلامهمَ وأفكارهمَ في فلكِ السلطاتِ الحاكمة. تُسبحُ أقلامهمَ وتُهللُ بحمدِها، وتُزينُ صورتها، ولا يمكنُ أن تخرجَ قيدَ أنملةٍ عن الخطوطِ الحمراءِ المرسومةِ لها. تصريحاتهمَ وأخبارهمَ وتقاريرهمَ وتحليلاتهمَ هي مجردُ صدىً لصوتِ السلطة، لا تُعبرُ عن واقعٍ، ولا تُلامسُ همومًا، ولا تُقدمُ نقدًا بناءً. أيُّ صحافةٍ هذهِ نحتفي بحريتها؟ وأيُّ يومٍ عالميٍّ هذا ونحنُ نرى هذا الانقسامَ الصارخَ بينَ قلمٍ مُكبلٍ يُعاقبُ على الصدق، وقلمٍ مُسيبٍ يُكافأُ على التملق؟
أيُّ يومٍ عالميٍّ لحريةِ الصحافةِ نحتفي بهِ نحنُ العربُ وأيادي سلطاتنا مُلطخةٌ بدماءِ الصحفيينَ والمثقفينَ والكتابِ والأدباءِ الذينَ دفعوا حياتهمَ ثمنًا لكلمةٍ حرةٍ أو فكرةٍ مُستنيرة؟ أيُّ احتفاءٍ هذا والانتكاساتُ الصحفيةُ والثقافيةُ متواليةٌ منذُ عقودٍ من الزمن، تُعيدُنا إلى الوراءِ معَ كلِّ يومٍ يمر؟
لماذا نُغالطُ أنفسنا ونُشاركُ العالمَ الاحتفاءَ بيومٍ لا نُؤمنُ بجوهرهِ ولا نُمارسُ مبادئهِ؟ الدولُ الغربيةُ المتقدمةُ ودولٌ أخرى في العالمِ انتهجتْ نهجَ حريةِ الصحافةِ قولًا وعملًا، سلوكًا وأداءً. لم تجعلْها شعارًا أجوف، بل مارستها كقيمةٍ أساسيةٍ وجنتْ ثمارَ الشفافيةِ والحريةِ والوضوح. سلحتْ أجيالًا متعلمةً تعي بكلِّ ما يدورُ حولها، ذاتَ بصيرةٍ نافذةٍ وقراءةٍ نقديةٍ واقعيةٍ صحيحة، تُدركُ ما يضرُ البلادَ وما ينفعها، وتُساهمُ في بناءِ مستقبلها بوعيٍ ومسؤولية.
أما نحنُ، معشرَ الدولِ العربيةِ إلا من رحمَ ربي، عندما نحتفي باليومِ العالميِّ لحريةِ الصحافة، فحالنا كحالِ تلكَ المرأةِ التي جلستْ بينَ نساءٍ أزواجهنَّ مغتربونَ في الخارج. كانتْ لوحدها، وكلُّ النقاشاتِ تدورُ بينَ نساءِ المغتربينَ عن أحوالِ أزواجهنَّ وما يُرسلونَ لهنَّ من مالٍ ومتاع. كانتْ صامتةً، لا تدري ما تقولُ وماذا تفعلُ في نقاشٍ كهذا لا ناقةَ لها فيهِ ولا جمل، فزوجها ليسَ من ضمنِ المغتربين. أوجستْ في نفسها وحشةً وانفرادًا، وشعرتْ بالاغترابِ في وسطِ جمعها. فما كانَ منها إلا أن حاولتْ أن تنضمَ إلى حلقةِ النقاشِ وتكسرَ حاجزَ الصمتِ والوحدة، فقالتْ مُسليةً نفسها ومُعوضةً عقدةَ النقصِ التي قد توغلتْ في صدرها: "نحنُ نساءُ المغتربينَ في خيرٍ وعافيةٍ وأزواجنا يُرسلونَ لنا كلَّ ما نحتاجهُ من مصاريف".
هكذا نحنُ، نُحاولُ أن ننضمَ إلى حلقةِ الاحتفاءِ العالميِّ بحريةِ الصحافة، نُرددُ عباراتٍ عن الحريةِ والديمقراطيةِ والشفافية، بينما واقعنا يُصرخُ بمرارةٍ عن سجونٍ مُكتظة، وأقلامٍ مُكبلة، ودماءٍ مُهدرة، وانتكاساتٍ متوالية. إنهُ ليسَ احتفاءً بالحرية، بل هو مرآةٌ تُظهرُ حجمَ التناقضِ بينَ الشعارِ والواقع، وصرخةٌ في وجهِ التزييفِ الذي نُمارسهُ على أنفسنا قبلَ أن نُمارسهُ على العالم. متى نُدركُ أنَّ الحريةَ ليستْ يومًا نحتفي به، بل هي منهجُ حياةٍ نُمارسهُ، وقيمةٌ نُدافعُ عنها، وواقعٌ نُبنيهِ بصدقٍ وشجاعة؟
علوي سلمان
صحفي وباحث يمني