آخر تحديث :الإثنين-05 مايو 2025-09:26م

حين يُحدثك قلبك قبل أن يتكلم العالم (قصة شعور، لا تُفسره العقول وحدها)

الإثنين - 05 مايو 2025 - الساعة 05:34 م
سناء العطوي

بقلم: سناء العطوي
- ارشيف الكاتب



لم يكن هناك ما يُنذر بشيء.

خرجتُ من البيت كما أعتاد كل صباح، والمطر كان يهمس على الأرصفة، والمدينة لم تستفق تمامًا.

لكن قلبي لم يكن هادئًا.

كان ينبض بإيقاعٍ غريب، كأن شيئًا قادم، كأن الحياة تستعد لشيء ما. لا دليل، لا رسالة، فقط شعور.

ولم تمضِ ساعة حتى جاءني الاتصال: الحادث، الطارئ، تلك اللحظة التي كنت أشعر بها دون أن أعرفها.



كم مرة حدث لك هذا؟ أن تشعر بأن شيئًا سيقع… ويقع؟

أن تسمع صوتًا داخليًا يقول: "لا تذهب"، "لا توقّع"، "انتظر"، دون أن تجد لذلك منطقًا، ثم تكتشف لاحقًا أن هذا الصوت كان على حق؟


تلك اللحظات ليست خيالًا ولا تصنُّعًا.

يسمّيها الناس: الحدس.



علماء النفس يقولون إن الحدس هو مزيج من الذكاء العاطفي والخبرة اللاواعية.

أنت ترى، تسمع، وتُحلّل دون أن تدري.

تلتقط مئات الإشارات: في تعبيرات الآخرين، في نبرة أصواتهم، في تكرار الأحداث حولك… لكن عقلك الواعي لا ينتبه.

فجأة، يُلقي عقلك الباطن بالنتيجة إليك، لا كتحليل، بل كـ"شعور مفاجئ".

لكن... هل كل ما نشعر به حدس؟ وهل كل حدس ناتج عن العقل؟



حين كنت طفلًا، كانت أمّي تقول لي:

القلب المؤمن يحسّ، يعرف، يشعر... الله يهديه."

كنت أبتسم، لا أفهم، حتى كبرت.

حتى وجدت في كتاب الله ما يؤكّد أن الله يُلقي في قلوب عباده ما يوجّههم، لا عن طريق الحواس، بل من باب الغيب.


تأمّل قوله تعالى:


> "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادُّوه إليكِ وجاعلوه من المرسلين."

[القصص: 7]



امرأة بسيطة، ليست نبيّة، لكنها تتلقّى وحيًا، أي إلهامًا ربانيًا، أن تضع طفلها في النهر!

أي حدسٍ هذا؟ أي يقينٍ دفعها لذلك؟

إنه من عند الله، يُلقيه في قلب من يشاء، وقت الحاجة، ووقت الخوف، ووقت انعدام المنطق.




تذكرتُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفراسة:


> "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله."

أي أن الله يفتح له نافذة، يرى بها ما لا يُرى، ويشعر بما لا يُقال.

ليس سحرًا، ولا خيالًا، بل ثمرة قلبٍ متصل بالله، عامر بالصدق والتقوى.



لكن الحدس قد يكون نعمة وقد يكون فتنة.

فالحدس الصادق يُهدي، أما الوهم فيُضل.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:


"استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك."

استفتِ قلبك... لكن أي قلب؟

ذاك الذي لا تحكمه الأهواء، ولا تلوثه الشهوات، قلب صادق، سليم، يثق بالله، ويُحسن الظن به.



حين يصفو القلب، يصبح كالمرآة، يرى الانعكاس قبل أن يظهر، ويلتقط النداء قبل أن يُقال.

وحده الحدس الصادق، ذلك الذي تُضاء فيه البصيرة، لا يخدعك ولا يخونك.


وربما لهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من "المُحدَّثين"، أي من يُلقى في قلبه شيء من الحق، بلا وحي.

كان يقول الكلمة، فينزل القرآن موافقًا لها.

أي نور هذا؟ أي اتصال خفيّ بين الأرض والسماء؟



اليوم، وسط صخب التقنية وضجيج الشاشات، بات من الصعب أن نسمع أنفسنا.

أن نُصغي لذلك الشعور الرقيق الذي ينبض فينا كصلاة، ويقول: "انتبه"، "ارجع"، "ثق"، "توكل".

لكن ذلك الصوت لا يموت، هو هناك… في العمق، ينتظرنا أن نهدأ، أن نصمت، أن نؤمن.



الحدس ليس غيبًا نملكه، بل نافذة يفتحها الله لنا، إن طهرت قلوبنا، وصدقنا في طلب الخير.

هو إشعار، لا تشريع… رسالة من السماء، تمرّ من خلال القلب، لا العقل.


فحين يُحدثك قلبك، لا تتجاهله.

توقف… تأمل… اسأل الله:

هل هذا منك يا رب؟

ثم امضِ، مطمئنًا…

لأن القلب الصادق، حين يُلهم، فإنما يُلهم بنور الله.



[الكاتبة سناء العطوي]