لم يكن الفساد طارئًا على التجربة اليمنية، فهو، في لحظات الانهيار، يولد كأثر لا كسبب. غير أن المأساة تشتد حين يُرفع شعار الإصلاح ليخاض تحته صراع النفوذ، وحين تتحول الحكومة إلى واجهة خطاب لا مؤسسة فعل، فينحرف المسار عن الدولة نحو الفرد، وعن المصلحة العامة إلى هندسة المكاسب الخاصة.
في واحدة من اللحظات السياسية المضطربة، صعد إلى صدارة القرار من استعار قاموس الإصلاح لكنه عجز عن فهم أبجدياته، وأدار الحكومة بروح المراقب لا بصيرة المسؤول. رأى في المركز فرصة للتمكين الشخصي، لا مساحة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. ومع الوقت، لم تكن الحكومة سوى مسرح لصراعاته الجانبية، وجهازه التنفيذي ظل مرتهنًا لإرادته وحدها.
ومع كل انتكاسة، أُطلقت سردية جديدة، مقاومة لإصلاحاته، مؤامرة من شركائه، عراقيل خارج إرادته. لكنه كان يهرب من السؤال المركزي: ماذا فعل؟ كيف أنفقت الموارد؟ وأين هي نتائج خطاباته المتكررة؟
لم يجرؤ على مواجهة المؤسسات بنزاهة، فاستعاض عن ذلك بتضخيم الخطر من ( الآخر ) وتكريس الهوس بالاصطفاف، وشراء الوقت بالمراوغة. حتى حين بدأ المزاج السياسي يميل بوضوح نحو تغييره، حاول الالتفاف عبر استقالة مرتجلة ونصوص مسربة، كأنما يريد أن يعطل الواقع بحيله الأخيرة.
لكن الدولة، هذه المرة، لم تتردد كثيرًا. جاء القرار بهدوء حاسم، لا يشهر النكاية، ولا يستعرض البطولات. وفي مكانه، جاء من لا يهوى الخطابة، ولا يستهويه التصدر، إنما يعرف طريقه إلى الملفات الثقيلة من بوابة العقل لا الشعارات.
النهج الجديد لا يعلن الحرب على أحد، ولا يستعرض في مواجهة أحد. إنما يفتح الملفات المؤجلة، ويعيد ترتيب الأولويات، وينحاز إلى ما هو ممكن وعاجل. لا يُقارع الوهم بوهم، إنما يُصوب الخطاب ويضبط الإيقاع. خطوة بخطوة، بلا تهريج، ولا ادعاء قداسة.
وفي ذلك فارق جوهري، بين من أدار الحكومة كمنصة شخصية، ومن جاء إليها كتكليف وطني. بين من أرهق الدولة بالتضليل، ومن يحاول الآن أن يُعيد إليها بعض اتزانها السياسي والمؤسسي.
لسنا أمام معجزة، ولا في ظل لحظة مثالية، لكن هناك فرقًا شاسعًا بين من يرى الدولة أزمة قابلة للاستثمار، ومن يراها مسؤولية قابلة للتصحيح. وإذا كان الباهت قد غادر بصخب، فالهادئ اليوم يعمل بصمت، ولا يحتاج إلى ضجيج، ونأمل أن يسير في الاتجاه الصحيح.