لطالما شكّلت النساء ركيزة أساسية في مسيرة الشعوب نحو التغيير والخلاص من الفساد والاستبداد. إن قوة النساء لا تُقاس فقط بعدد المشاركات أو المناصب، بل بمدى قدرتهن على التأثير في البنية المجتمعية وتحفيز الوعي وتحريك الجماهير في لحظات التحول التاريخي. النساء هن من يرسمن ملامح الرفض الأولى حين تسكن الخيبة صدور الناس، وهن من يحفزن على كسر جدران الصمت حين يعمّ الظلم وتغيب العدالة. وفي هذا السياق، يُعد نضال نساء عدن نموذجًا حيًا وملهمًا لقوة المرأة في صناعة التغيير ومواجهة الطغيان بكل أشكاله، سواء في سياق النضال ضد الاستعمار أو في معارك الكرامة ضد الاستبداد المحلي والفساد المتراكم.
منذ خمسينيات القرن العشرين، وفي ظل الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، انخرطت النساء العدنيات في قلب الحراك التحرري، وكنّ جزءًا لا يتجزأ من الفعل السياسي والميداني، لا مجرد مشاهدات أو داعمات من بعيد. شاركن في تنظيم المظاهرات، وهتفن في مقدمة الصفوف، وواجهن قوات القمع بصدور عارية وإرادة صلبة، وساهمن في بناء وعي جمعي تحرري تجاوز المفاهيم التقليدية لدور المرأة. نظمن صفوفهن في اتحادات نسوية، وخرجن في مسيرات حاشدة تعبّر عن الرفض الشعبي للاستعمار، وكتبن المنشورات، وخاطبن الجماهير، وحملن همّ الوطن في المدارس والمنازل والساحات.
لم يقتصر دورهن على العمل السلمي، بل شاركت بعض النساء في عمليات فدائية مباشرة، وأدّين أدوارًا بالغة الخطورة في إيواء المناضلين ونقل المعلومات والأسلحة، متحديات الرقابة والملاحقة، ودافعات في كثير من الحالات أثمانًا باهظة من حريتهن وأرواحهن. واجهن الاعتقال والسجن والمطاردة والتشويه، لكنّ إيمانهن بالحرية والاستقلال كان أقوى من الترهيب. وقد ساهمت هذه التضحيات في تسريع وتيرة العمل الوطني الذي تُوّج بتحقيق الاستقلال في نوفمبر من عام 1967.
لكن بعد الاستقلال، لم تطوِ المرأة العدنية صفحة النضال، بل أعادت تموضعها في مواجهة تحديات من نوع مختلف. ظهرت أنماط جديدة من التسلط والهيمنة الداخلية، وتعددت أشكال الإقصاء والتمييز، لتجد المرأة نفسها من جديد في قلب معركة أخرى: معركة الحفاظ على مكتسبات الحرية، وترسيخ العدالة الاجتماعية، والدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية. خلال السبعينيات والثمانينيات، واجهت النساء سياسات الدولة المركزية التي همّشت الأصوات المستقلة، وناضلن من أجل التعليم والعمل والتمثيل السياسي، وتحسين أوضاع النساء في القانون والمجتمع، متحديات القيود البنيوية والسلوكية التي كانت تُفرض عليهن باسم النظام أو الأعراف.
وفي التسعينيات، ومع تفاقم الأزمات السياسية وتدهور الاقتصاد وتزايد البطالة والفقر، تعزز حضور المرأة العدنية في ساحات النقاش العام والحراك المدني. كتبت المقالات، ونظمت الوقفات، وأسّست المبادرات المجتمعية، وأسهمت في تشكيل وعي نقدي تجاه السياسات القائمة. ومع اندلاع الحروب منذ عام 2015، وما رافقها من انهيار مؤسسات الدولة وتفشي الفساد وتفاقم الأوضاع الإنسانية، تصدرت النساء من جديد الصفوف. عملن في لجان الإغاثة، وأعدن تفعيل شبكات التضامن، وقُدن حملات مدنية مناهضة للعبث والنهب، وتحملن عبء إعادة بناء الأمل في مجتمع متشظٍ.
وفي بيئة متخمة بالخوف والمخاطر، ووسط تراجع الحريات وتنامي الخطاب القمعي، لم تتراجع المرأة العدنية عن دورها. وقفت في وجه الممارسات الفاسدة، طالبت بالخدمات الأساسية، حاربت التمييز، وعبرت عن وجع الناس في ساحات الاحتجاج، وفي وسائل الإعلام، وفي المؤسسات القليلة المتبقية. قاومت العنف السياسي والاجتماعي، وأعادت توجيه البوصلة نحو أولويات المواطن، لا أجندات الأطراف المتصارعة.
إن تجربة نساء عدن، منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، تشهد على أن المرأة ليست كائنًا تابعًا يُنتظر منه أن يبارك الفعل الرجولي، بل هي فاعلة ومحركة ومحورية في كل تحول كبير. من ساحات التظاهر إلى مراكز القرار، ومن العمل الفدائي إلى التنظيم المدني، ومن ساحات القتال إلى ورش العمل والتثقيف والتوعية، أثبتت النساء أن التغيير الحقيقي في الدول الفاسدة يبدأ حين تكسر المرأة صمتها، وتخطو إلى الأمام، وتنتزع حقها في الحضور، وتدفع مجتمعها كله إلى الأمام.