في ضوء المشهد النسائي اللافت الذي شهدته ساحة العروض بعدن، لم تعد الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم القيادة ترفًا سياسيًا، بل باتت ضرورة وجودية تفرضها حرارة الشارع، قبل حرارة الشمس. "شرارة ثورة نساء عدن"، كما أسماها أبناء المدينة، لم تكن مجرد احتجاج عابر على انقطاع الكهرباء أو تفاقم الأوضاع المعيشية، بل كانت صرخة رمزية لكشف عورات القيادات الذكورية الغائبة، وهشاشة الكيانات السياسية المتصدرة للمشهد العدني. لقد تكلمت المرأة العدنية، ليس فقط بصوتها، بل بحضورها الجسور، متحدّية القيود الاجتماعية، ومعلنة أن وقت الصمت قد انتهى، وأن من لا يسمع صراخ الأمهات في حرّ الصيف، لا يستحق أن يُدعى قائدًا.
تأتي هذه الانتفاضة النسوية لتضع أصبعها على الجرح السياسي العميق الذي طال عدن لسنوات. فالمدينة، التي كانت يومًا منارة حضارية، تحولت إلى مسرح لصراعات الفصائل، وتنازع الولاءات، وتكاثر الكيانات الهشة التي تُجيد رفع الشعارات وتفشل في تقديم الكهرباء. لم تكن النساء ليتقدّمن بهذا الشكل الجريء إلى واجهة الاحتجاج، لو لم تبلغ الأزمة حدّ الانفجار. وحين تتحول الغضبة إلى صوتٍ أنثويّ جامع، فهذا يعني أن الثقة في المنظومة القيادية قد بلغت أدنى مستوياتها، وأن الحاضنة الشعبية التي يفترض أن تُشكل شرعية أي قيادة تمثل أبناء عدن، بدأت في البحث عن بديل.
إن هشاشة القيادات العدنية الحالية لا تنبع فقط من افتقارها للرؤية، بل من كونها قيادات متقوقعة في كيانات بلا جذور أو قاعدة شعبية مؤثرة في الشارع، وتفتقد إلى الجسارة، والمصداقية، والتواصل الحقيقي مع نبض المجتمع. إنها قيادات مشغولة بالصراعات الشخصية البينية وبإعادة تدوير خطاب الماضي، ولأنها ترى في حضور المرأة تهديدًا لسلطتها الموروثة، ووعيًا يمثل المستقبل. فحين تخرج الأم والزوجة والفتاة إلى الساحة، دون أن تأبه بجدران الخوف، وتضع المطالب المعيشية فوق كل اعتبار سياسي أو حزبي، فالرسالة عندها تكون قاطعة ولا تقبل اللبس: الشعب، وفي مقدمته النساء، سئم من القيادات الذكورية المنهكة، التي اختارت التمترس خلف الشعارات على حساب المواجهة الصريحة مع الاستحقاقات.
لقد آن الأوان لأن يعترف الفاعلون في المشهد العدني، أن القيادة ليست امتيازًا ذكوريًا مقدسًا، وأن الشجاعة ليست سيفًا يُشهر، بل موقفًا يُتّخذ. والمرأة، التي وقفت اليوم في ساحة العروض، أثبتت أنها تملك من الإرادة والصدق ما يعجز عنه الكثير من السياسيين. بل ربما تكون عدن اليوم، في هذه اللحظة المفصلية، في أمسّ الحاجة إلى قيادات نسوية تملك الشجاعة الأخلاقية، والرؤية الاجتماعية، والقدرة على الاستماع للناس والتكلم بلغتهم. إن المرأة التي لا تخاف من شمس تموز، لن تخاف من صراخ الأحزاب ولا من صفقات الكواليس.
من هنا، فإن الثورة التي بدأت تحت شعار "ثورة نساء عدن" يجب أن تُقرأ لا كمجرد تحرك احتجاجي، بل كبداية لتشكل وعي سياسي جديد، يقوده صوت نسائي جريء، يتجاوز المألوف، ويتحدى منطق "التقليد السياسي" الذي كرّس التهميش. وإذا كان الرجال قد فشلوا في ترسيخ زعامة جامعة، وإذا كانت الكيانات التي أنشأوها تفتقر للروح، والرؤية، والانتماء الحقيقي للناس، فإن عدن لن تخسر إذا راهنت على نسائها. بل لعلها لا تنجو إلا بهن.
في السياسة كما في الحياة، تُثبت التجارب أن القيادة لا تُولد من التراتبية الذكورية، بل من عمق التفاعل مع الواقع، ومن امتلاك الجرأة على مخاطبة المأساة بصوت الحقيقة. وعدن، التي صرخت نساؤها اليوم، بحاجة إلى من يشبههن في وضوحهن، في عنادهن، في قدرتهم على المواجهة دون أقنعة. هذه ليست دعوة للتأنيث السياسي بمعناه الشكلي، بل دعوة إلى إعادة تعريف الزعامة، وإفساح المجال لأصوات نسوية أثبتت أنها أكثر انسجامًا مع هموم الناس، وأقل تورطًا في شبكات المصالح الضيقة.
إن مستقبل عدن قد يبدأ من لحظة وعي جديدة، لحظة تتجاوز المفاضلة بين كيانات مهترئة ومتداعية ، وتراهن على قيادات تُبنى من الناس لا من فوقهم. ولعل المرأة، التي خرجت اليوم إلى الشارع، تستحق أن تكون القائدة المنشودة، حين يجف حبر البيانات، وتبهت وعود الرجال.