بكل هدوء الجبال التي تراكمت عليها القرون، وبكل عنفوان الموج الذي ينهض كلما ظنّوه قد خمد، تصمت عدن أحيانًا ولكنها لا تنكسر، تصبر ولكنها لا تنحني، تُخدع ولكنها لا تُهزم. أولئك الذين يتطاولون على انتماء أبنائها، متناسين أن الانتماء ليس ورقة تُمنح في صالات الحكم، بل شعور يُغرس في الجذور ويُروى بالوفاء، هم كمن يحاول تعليم النسر الطيران وهو لا يزال يزحف بين حطام الوهم.
قال ابن خلدون: "إذا دخلتَ بلداً، فاسأل عن ناسه، فإن كان فيهم من لا يعرف تاريخه، فاعلم أنهم رعية لا أمة." وهؤلاء الذين يشكّكون بعدنية العدني، هم أنفسهم لا يعرفون عدن إلا كاسم في نشرات الحرب، ولا يرونها إلا من خلال فوهة البندقية. غابت عنهم صورة عدن وهي تكتب رسائلها إلى العالم بخط بحري، وتفتح نوافذها على الأمل، وتخيط للشرق معطفاً من التجارة والمعرفة والانفتاح.
يقول نيتشه: "من لا يملك ماضياً، لا يستطيع أن يصنع مستقبلاً." فهل يملك هؤلاء ماضياً يُباهي به الحاضر؟ أم جاؤوا إلينا كما يأتي الطامعون، يحسبون أن المدن تُستباح بالتهليل وشهوة السيطرة؟ لا يعلمون أن التاريخ ليس نُزلاً تُحجز فيه غرفة بالسطو، بل هو نَسَب يتجذّر في الأثر والبصمة والملامح واللهجة والمقاهي التي تذكرك حين تنساها.
وهل نسيتم يا مدّعي الانتصار، ما كتبه غاستون باشلار عن المكان؟ قال: "المكان الذي نسكنه يسكننا." فكيف تتجاسرون على القول إن أبناء عدن لا ينتمون إليها، وهم الذين نسجوا من ليلها قصائد، ومن صباحها أهازيج، ومن شوارعها عناوين للكبرياء؟ كيف تغدو الضحية هي الغريب، والغازي هو الوريث؟
في "فن الحرب" يقول صن تزو: "من لا يعرف أرض المعركة، يُهزم فيها مهما امتلك السلاح." وأنتم لم تعرفوا عدن، لم تتذوقوا قهوتها، لم تسهروا في أحيائها القديمة، لم تصادقوا بحرها، فهُزمتم في فهمها، وظننتم أن الاحتلال يُعادل الانتماء.
وكتب الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: "المدن، مثل النساء، تحفظ سرّ من أحبها بصدق، وتلفظ من لمسها بعنف." وعدن، هذه المدينة التي خذلتها السياسة وداستها الأحذية العسكرية، لا تزال تلفظ كل من دخلها مدججاً بالشهوة لا بالحب، وبالعقيدة لا بالحضارة، وبالرغبة لا بالرؤية.
أما جلال الدين الرومي فقد كتب: "لا تجرح مدينة بكلمة، فالمدن تسكنها الأرواح، وليس فقط الناس." وعدن ليست بناءاتٍ إسمنتية، بل ذاك النداء البعيد من مينائها، والأغاني التي تخرق الجدران، والأنفاس التي تُطلقها سماؤها كلما بكت وابتسمت. كيف تنكرون مدينة تسكن الأرواح؟ كيف تنكرون شعبًا تعلّمت مدينته كيف تكون الهوية ملاذًا لا شعارًا؟
من قال إن المدينة التي فتحت ذراعيها لأبناء الريف، وأطعمتهم حينما كان الجوع هويتهم، تستحق أن تُكافأ بتهم الإلغاء والتجريد؟ إنكم كمن يعضّ اليد التي أطعمته، بل أنتم صورة حديثة للمقولة الفرنسية: "إن الثورات يأكل بعضها بعضاً."
أيها المتشدقون بالشرعية والانتصار، تذكّروا قول محمود درويش: "المنفى هو ألا تكون منفيًا في وطنك." فأنتم تصنعون المنفى في المدينة، وتوزّعون التهم على من وُلدوا في أحضانها، كأنكم تشترون شهادات الأصل والنسب في سوق سوداء للحقيقة.
عدن، تلك التي قال عنها المؤرخ سترابو في القرن الأول الميلادي إنها "المدينة التي يلتقي عندها العالم"، لم تنتظر اعترافكم لتكون. وعدن، التي تحدّث عنها المؤرخ الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" بأنها مرفأ الأمم، لم تكن قرية لتنتظر من يرفعها إلى مقام المدينة.
فالعدني، أيها الغُلف، ليس من جاء إلى المدينة، بل هو من ولدت المدينة فيه. هو من يفتح البحر ولا يغرق، من يعرف أسماء الرياح، ويشتمّ رائحة الحرب من بعيد فيغني. فلا تقولوا لنا اليوم: "أنتم عرب 48"، بل اسألوا أنفسكم أولًا: من أنتم؟ وماذا تركتم خلفكم غير رائحة الحطب المحترق؟
ستظل عدن أكبر من صغائركم، أطهر من ألسنتكم، وأبقى من وجودكم الزائل، لأن المدن الحقيقية لا تموت، فقط تنتظر أن تصمت الضوضاء، وتعود لتتكلم كما يليق بها: بلغة البحر، لا بلغة البنادق.