تسير تعز بوتيرة ثابتة نحو التقسيم، حيث تتصلب حدودها يوماً بعد يوم القوى العسكرية اليمنية، التي يُفترض بها تحرير تعز من الحوثيين، تقاسمت معهم الكعكة التعزية، ورتبت أوضاعها وفق ما أفرزته الصراعات العسكرية، مكتفية بما استقر تحت يدها من الغنيمة.
في تعز اليوم، هناك ثلاث حكومات تحميها ثلاثة جيوش، لكل منها حلفاؤها ومساندوها ومستخدموها، ولكل منها جمهورها ورموزها ومثقفوها، فضلاً عن "أيديولوجيتها السياسية" الجاهزة، كالعادة، للتكيف مع الواقع القائم وتكريسه، مع عدم الاعتراف به أو إقراره في الوقت نفسه.
ضمن حدود تعز القديمة، باتت لدينا حكومات وحدود ومعابر، تفتش الداخلين والخارجين، وتسمح لهم أو تصدّهم. يقف على هذه المعابر جنودٌ لا يعلمون شيئاً، ولا يهمهم أن يعلموا، عن أصل الحكاية التي جعلتهم حرّاس حدودٍ داخل محافظة واحدة.
اليوم، تصبح تعز أرضاً لـ"وطنيات" عديدة ناشئة، تشكل كل منها منصةً لتخوين الآخرين ونبذهم. ثلاث واجهات باهتة، سعيدةٌ بما تخفيه من مضمون مخالف: واجهة "ديمقراطية" في شمال شرق تعز تمثل دولة الولاية الحوثية، وواجهة قبلية في شمال غرب تعز تمثل دولة العشيرة العفاشية، وواجهة شرعية في المدينة تمثل دولة الإصلاح. الضحية الأولى لهذه "الهويات الطارئة" هي الهوية التعزية، التي يتغنى بها كثيرون ويتسلّون بلحن غنائهم، بينما يثابرون على قطع حبل وريدها.
المفارقة أن القوى العسكرية، التي يُفترض أنها قوى تحرير، صارت اليوم هي القوى المنكفئة التي ترى نصرها في تثبيت الحدود. القوى التي ورثت الجمهورية زوراً، أصبحت اليوم قوى محافظة، جلّ ما تريده أن تحافظ على ما هي عليه. عسكرياً، يبدو أن القوة الوحيدة الساعية لكسر هذا الحال هي الحوثيون، الذين يحلمون بالسيطرة على كامل تعز، بينما ينحصر طموح قوات المقاومة الوطنية في ساحل تعز وتهامة، وحزب الإصلاح في المدينة وبعض الأرياف.
النظر الجريء إلى واقع تعز يُظهر أن المؤسسات التي تترسخ على الأرض في المناطق الخارجة عن نفوذ الحوثيين، تخلق نخباً حاكمة ومصالح خاصة مضادة لعملية تحرير تعز، حيث تسعى هذه المصالح إلى الحدّ من أي تحرك قد يهدد استقرارها.
من المعروف أن النخب الحاكمة في كل من هذه المناطق تنشئ فيما بينها علاقات اقتصادية ومالية وحتى أمنية، وفق مقتضيات استمرار إدارتها لمناطق نفوذها. وإذا علمنا أن الحال السياسي في هذه المناطق لا يختلف عنه في مناطق سيطرة الحوثيين، ندرك أن الصراع بين القوى المسيطرة فيها يقوم على المصالح الخاصة بكل نخبة حاكمة، بعيداً عن مصلحة تعز والمجتمع التعزي، الذي خرج إلى حدٍّ كبير من ميدان السياسة مع سيطرة الفعل العسكري على المشهد.
سياسياً، الحلم المضمر لدى القوى التي ورثت الجمهورية ظلماً، هو أن تحوز نخبها على أوسع سلطة ممكنة في مناطق نفوذها، وصولاً إلى ما يشبه الحكم الذاتي غير المعلن. وهذا هو الدافع الذي يحرك النخبة الحوثية الحاكمة للقتال من أجل بسط سيطرتها على المناطق الخارجة عن نفوذها في تعز، مدفوعةً بالمصالح الاقتصادية (تكثيف الموارد) والسياسية (كسب المزيد من الشرعية). أما النخب الأخرى المحسوبة على الجمهورية، فقد كسبت ما خسرته تعز، وهي تدرك اليوم، في ظل التعقيدات الراهنة، أنها لا تملك القدرة على توسيع نفوذها. لهذا السبب، يبدو الحوثيون حتى الآن الطرف الوحيد الساعي لاستعادة وحدة تعز، على خلاف القوى الأخرى.
السؤال الآن: أين تقع هذه القوى من الجمهورية، أو من عملية تحرير تعز التي يتطلع إليها أبناؤها؟
من الواضح أن الحل العسكري كان فاشلاً على طول الخط، وفي جميع الاتجاهات. فقد فشلت الفصائل العسكرية في تحرير تعز بالكامل من سيطرة الحوثيين، وفشل الحوثيون في استعادة السيطرة على تعز بأكملها عسكرياً. واليوم، أمام هذا الفشل، إذا توافقت القوى المتحكمة بالوضع التعزي على تطبيع الواقع الحالي، سنجد حينها أن "وطنية" الحوثيين، وسعيهم للسيطرة العسكرية على تعز بأكملها لاستعادة وحدتها، قد تهيأ لهم الظروف محلياً ودولياً.
اليمن سبق أن قُسِّمَ على يد الاستعمار البريطاني والإمامة الهاشمية، اللذين أنكرا الوطنية اليمنية، ونظرا إلى اليمنيين بوصفهم جماعاتٍ قبلية ودينية. ومع ذلك، استطاع اليمنيون حينها، بإرادتهم، استعادة وحدتهم وفرضها على المحتل والإمامة.
أما تعز اليوم، فهي أمام تقسيم تفرضه احتلالات عديدة، مما يتطلب من أبنائها إرادةً ووعياً أكبر، وتحدياً أشد، ومواجهةً حقيقية مع النخب الحاكمة، التي تتبلور مصالحها أكثر فأكثر ضد تعز: أرضاً وإنساناً.