أنهيتُ نحو ساعتين وربع من الاستماع والمشاهدة لبودكاست «بلكونة» الذي أدار فيه الزميل محمد الصلوي حوارًا شيقًا للغاية مع الزميل الصحفي فتحي بلزرق، رئيس مؤسسة «عدن الغد» أو بالأحرى مؤسسها.
من أهم ما اكتشفته خلال الحوار كان إجابة على سؤال ظل يراودني منذ زمن.. أين كان فتحي بلزرق حين كنت أغطي أحداث الحراك الجنوبي في 7/7/2007؟ إذ كنتُ حينها مراسلاً صحفياً لصحيفة «الناس» وموقعي «ناس برس» و«مأرب برس»الإخباريين، حتى اني لم أجد أي صحفي آخر ينزل إلى ساحة العروض ليشهد العرض العسكري للمتقاعدين ويكتب عنه، حتى كدت أعتقد أنني الوحيد يفعل ذلك، ولربما كان الخوف سائداً حينها لدى كثير من الزملاء، وأعتقد أنهم كانوا على حق، إذ أن تخوفات السلطة عقب ذلك الحدث كانت كبيرة، ومارس القمع الذي نلت نصيبه منه شخصياً، رغم أن سقف مطالبهم آنذاك كانت محدودة وتتمثل في إعادة المسرحين بعد صيف 94 إلى وظائفهم.
وبتلك الجرأة التي تميّز بها الزميل فتحي، كنتُ دوماً أتساءل لماذا لم أره أو أطلع على رأيه، سواء في مقالات أو أخبار كانت تصدر من صنعاء او من وتتناول تلك الأحداث عبر مختلف أنواع العمل الصحفي.
عموماً، دفعتُ ثمن ذلك بكل فخر، حيث كنتُ أغطّي تلك الأحداث بشكل متواصل في عدن رغم الخوف السائد بين كثير من الزملاء. حتى أنني في منتدى "الجنوب العربي" ظهرت كشهيد بعد تعرضي لاعتداء غاشم بالفعل، إذ وُضعت صورتي بينما الاسم كان لشخص آخر.
لاحقاً، تعرّضتُ لاعتداء من قِبل الأمن بسبب استمراري في التغطية، وأتذكر كيف كان قادة الحراك وبعض العسكريين المتقاعدين ينادونني بـ«يا ناس برس» كلما التقوني.
وفي مهرجان التسامح والتصالح الجنوبي عام 2012، تعرّضت لاعتداء ممن كنتُ انقل احداثهم، وذلك بعد أن أنهيت آخر تغطية صحفية عن تطوراتهم. رغم اعتذار السفير قاسم عسكر الذي أعلن ذلك في قاعة ميركيور عدن أمام الزملاء، إلا أنني لاحقاً رأيت أن الشارع الجنوبي يمارس ظلماً واعتداءات تحت حجج مناطقية على أبرياء من الشمال، هم بدورهم لم يسلموا من ظلم النظام الذي قام الحراك ضده.
في حديثه عبر بودكاست «بلكونة» تعرفت على جوانب من حياة فتحي لم أكن أعلمها من قبل، مثل تفاصيل حياته الشخصية والقروية وتنقلاته واسرته بين الشمال والجنوب هروباً من الظلم، ما جعله فعلاً شخصية مخضرمة ومتمرسة.
لكن ما لفت انتباهي حقاً كان الشكوك التي دارت حول فتحي، حول دعمه وكيف أنه يتحرك بأمان في عدن وسط انفلات أمني، ونقده الحاد للنظام والانتقالي الذي يسيطر على القبضة الأمنية هناك، ما أثار جدلاً واسعاً، رغم علاقتي المتينة به في الفترة الأخيرة. ومع ذلك، كنت دائماً أُقنع نفسي بأن فتحي رجل مختلف بالفعل، حتى وإن قوبلت قناعتي هذه باستنكار من البعض حين يذكر اسمه سواء في الواقع الافتراضي أو الحقيقي.
كان دافعي وحجتي أمام كل هؤلاء أن الرجل الذي يعترف بخطئه هو شخص محترم، أما من يصحح هذا الخطأ فهو رجل عظيم، وهذا ما يفعله الزميل فتحي، الذي يُعدّ من أقوى الأصوات الإعلامية في اليمن. مع كل تطور أو منعطف أراه فتحي الناضج الذي تمنيته ان يكون. حتى أني كنت تحدثت عنه مع مسؤولين في الدولة الذين ظننت أنهم على علاقة به وبصحيفته «عدن الغد»، وقادرون على التأثير عليه، خاصةً بعد تناولات الصحيفة عقب أحداث 2014، وارتفاع حدة الخطاب المناطقي بعد 2015 بسبب الحوثيين وغزوهم لعدن. كنت أعتقد أن «عدن الغد» هي الصحيفة الوحيدة التي استمرت في الإصدار حتى بعد تحرير عدن من الجماعة الحوثية الإرهابية، في ظل توقف معظم الصحف اليمنية الأهلية والرسمية.
لم تكن تربطني حينها أي علاقة مباشرة بفتحي، لكن طبيعة عملي في الدائرة الإعلامية لمكتب رئاسة الجمهورية دفعتني لطرح مقترح أمام مدير مكتب رئاسة الجمهورية آنذاك، الدكتور محمد مارم، بأن يبلغ فتحي بأن الخطاب المناطقي الذي كان يطغى على واجهة الصحيفة قد يسبب ضرراً لعدن والجنوب وقضيتهما العادلة قبل أن يمتد أثره إلى غيرهم. لا أعلم إن كان مارم قد نقل الرسالة أم لا، إذ كان المكتب مختصراً بشخصه فقط، لكن ما يسعدني اليوم هو قناعة فتحي نفسه، وإن جاءت متأخرة، منذُ سنوات مرت، والتي عبّر عنها بصراحة ومرارة في حواره عبر بودكاست «بلكونة» حين تحدث عن المناطقية البغيضة التي تغزو الجنوب.
من الأمور التي كشفت جانباً خفياً في شخصية فتحي، ذلك اللعب الذكي على تناقضات القناعات بين مختلف القوى، حتى تحولت "عدن الغد" إلى منبر للجميع ضد الجميع، وهو ما مثّل - كما أقرّ بنفسه - صمام أمان شخصي له. وفي ذات الوقت، نفى فتحي مراراً أي ارتباط له بنظام صالح أو بعناصره حينها.
لكن الحوار أظهر جانباً آخر في شخصية فتحي، يتمثل في نزوعه أحياناً إلى تصفية حساباته الخاصة، كردة فعل على حملات التشويه والشيطنة التي طالته، سواء من الانتقالي، أو دعاة الانفصال، أو في علاقته المتوترة مع حزب الإصلاح إبّان فترة وحيد رشيد كمحافظ لعدن. تلك العلاقة التي تجلّت لاحقاً في منشور له على "فيسبوك"، قبل سقوط صنعاء، تحدّث فيه عن هدف الحوثيين من اجتياح صنعاء بأنه لم يكن سوى القضاء على قوة الإصلاح الممثلة بالفرقة الأولى مدرع، ثم سيعود الحوثي إلى صعدة، أو يكتفي بدور شريك في حكم برئاسة هادي. وهي نفس القناعة التي سمعتها آنذاك من مقربين من جلال هادي قبل انقلاب 21 سبتمبر 2014، حين كانوا يردّدون بأنه حان الوقت للقضاء على الإصلاح. كنت أتعامل مع هذه الأفكار حينها باعتبارها نزوة طارئة، لم أصدقها، إذ لم أكن أرى في أي حزب، بما فيه الإصلاح، ما يستدعي تصفيته، خاصة وهو الحزب الذي ألقى بثقله الكامل لإنجاح الانتخابات الرئاسية التي لم يكن هادي سوى مرشحها الوحيد.
فتحي في حواره الشيق على بودكاست «بلكونة» أعاد إلى ذاكرتي أموراً كنت أحاول نسيانها والتغاضي عنها، مراهناً على موتها مع مرور تطورات الأحداث وتقلبات السياسة.
من أبرز ما استحضره هو تلك المعلومات التي نقلها الدكتور مروان الغفوري في مقاله عقب سقوط صنعاء، مستنداً إلى مصادر خاصة، فضلتُ حينها عرضها أمام قلم الغفوري الرشيق ونباهة الدكتور محمد جميح، ليعالجاها بطريقتهما، لكونهما كانا خارج البلاد ولا تواجههما أية عوائق أمنية. والنتيجة كانت ذلك الحديث المفصل عن ليلة سقوط صنعاء الذي أتى ثمرة جهود شخصية مثلّت همزة وصل بين مصدر المعلومات وهؤلاء الكتاب الكبار. ومع كل ما ذُكر، ظلّت في ذهني لمحات أصدقائي المقربين من جلال، نجل الرئيس، حول اقتراب القضاء على حزب الإصلاح، والتي اتضح لاحقاً انها كانت لعبة لم يكتب لها النجاح، وأسقطت صنعاء ولم تكتفي بذلك، بل تم اعتقال الرئيس هادي، وذهبت يد الحوثي ومعه قوات موالية للرئيس السابق عفاش لتغزو كل محافظات اليمن شماله وجنوبه.
حتى تلك القناعة الخاطئة التي كان يعتقدها فتحي عن الحوثي، قابله باعتذار رجل واقف على مسؤوليته، واستطاع تعويضها بتصويباته الموجهة نحو الجماعة الكهنوتية الميليشياوية التي لا تؤمن بالآخر، وتعتبر كل من هو دونها عبداً في حضرة ساداتها. رغم ذلك، لا يزال بعضهم حتى اليوم متمسكاً بقناعة فتحي السابقة، متجاهلين جهوده الإعلامية القيمة وآليته التي يواجه بها اختلالات الواقع في الشمال والجنوب إعلامياً.
لن أتحدث هنا عن انطلاقة فتحي، الرجل العصامي الذي عايش ظروفاً قاسية، ربما أنا عشت ما هو أصعب منها بكثير، وأراها مقارنةً بما مررت به انها نوع من الترف او الدلال. مع ذلك، أقف إجلالاً لفتحي ولما يقدمه، وأتمنى لصوته الحر أن يرتفع إلى أعلى سقف، وأن تتحقق كل طموحاته، خاصة وانه قد حدد وجهته السياسة في المستقبل، وانه لن يغير قناعاته هذه المرة.
كما تطرق فتحي عن الحديث المتداول حول الجهات التي تدعمه مادياً ومعنوياً، محاولاً إزالة الالتباس المحيط به، لكنني لا أعتقد أنه نجح في ذلك، نظراً للواقع الذي نعيشه وسط زخم الأقاويل والشائعات التي تُردّد كأنها حقائق. مع ذلك، أرى أنه أسهم نسبياً في توضيح الأمور ومشاركة جزء من الحقيقة.
أرى في طموحات فتحي وإنجازاته، وتخوفاته الخاصة والعامة، ذكريات الأستاذ حميد شحره - رحمه الله - وكيف أن "مؤسسة الناس" مثلت مدرسة صحفية خرجت منها العديد من الهامات الإعلامية التي اتسمت بالمهنية والالتزام بمعايير العمل الصحفي. كانت "الناس" تتفوق في هذا الإطار، لكن مع بروز تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، بدا أن مخرجات "عدن الغد" أكثر رواجاً وشهرة، مقابل مخرجات "مؤسسة الناس" التي للأسف لم ألتقِ بمؤسسها حميد شحره سوى مرة واحدة في حياتي، واتصالات متتالية عبر الهاتف يشيد بنشاطي الصحفي كمراسل لهم من عدن، والتي تركت أثراً عميقاً في نفسي، مما دفعني إلى إعداد فيلم وثائقي عن حياته كمشروع تخرج لمرحلة بكالوريوس الاعلام تخصص اذاعة وتلفزيون، جامعة عدن 2007، للتعرف عليه أكثر من شهادات رفاق دربه، باعتباره شهيد الصحافة اليمنية، بعد وفاته في حادث سير مؤسف، رغم أنه أسس صحافة مهنية راسخة في صنعاء بجهد شخصي وإمكانيات محدودة ومعاناة بالغة التعقيد، تتفوق على ظروف الزميل فتحي الذي سردها في البودكاست حيث تحولت "الناس" لاحقاً إلى منصة لجميع الكتاب من كل التوجهات وبحرية تامة ودون سقف، بينما أصبحت "عدن الغد" نسخة مشابهة منها او قريب منها في عدن، بنفس الانفتاح والتميّز والطموح الذي توقف بوفاة حميد، و تشابة كبير في الطموح علماً انه رحمه الله كان قد تعاقد مع جهة لاستيراد معدات قناة تلفزيونية، كما أخبرني شخصياً الراحل فارس الميدان يحيى علاو - رحمه الله.
يمضي فتحي بخطى واثقة نحو مستقبل إعلامي أكثر رسوخاً، يقرأ الواقع بعينٍ ناقدة ويتحرك وفق معطياته، ولعل من أبرز ما يستحق عليه التقدير، تحويل مكتبة صحيفة "عدن الغد" إلى منصة لاستقبال شكاوى المواطنين ومتابعة قضاياهم العالقة، مستثمراً سطوة السلطة الرابعة، وصوته العالي في فضاء السوشال ميديا.
والحق أن هذا التأثير الملحوظ الذي صنعه فتحي على منصات مثل فيسبوك و"تويتر X" لم يكن - في تقديري - ليتاح حتى لحميد شحره، لو كان حياً بيننا اليوم. إذ إن ذكاء فتحي في إثارة الرأي العام، واستدعاء اهتمامه لقضايا الشارع، وتوظيف شهرته الشخصية في خدمة ذلك، لم يجرؤ على ممارسته بذات الجرأة والتماسك إلا قلة قليلة. لكنهم لم يكونوا يوماً بمثل دهاء فتحي، الذي فسرَ في حوارة سر بناء قاعدته الجماهيرية، ليصبح تأثيره على هذا النحو العالي، واللافت للنطر.
شكرًا للزميل محمد الصلوي على أسلوبه الحواري الهادئ واللطيف، رغم ملاحظاتي أحيانًا على قفزه من فقرة إلى أخرى دون إتمام بناء النقاش ليظل أكثر تماسكًا، الأمر الذي كان يستدركه أحيانًا لاحقًا، أو يتولّى الزميل فتحي معالجته بطريقته الخاصة وإثراء النقاش بما يُبقيه حياً ومتدفقاً، أضف الى إهمال ملاحظة في غاية الأهمية، بعدم التطرق إلى كيفية حصول فتحي على معلومات هامة قبل الكل وهو أمر قوى من مصداقية فتحي و اضفى إليه رونق خاص.
لكن ما لفت انتباهي في خاتمة الحوار، أن الصلوي كشف بدوره عن تيه فتحي، ككل يمني يبحث عن مخرج في متاهة بلا أبواب. حين طرح فتحي مقترحاً للحل يقوم على وجود طرف واحد يتحمّل المسؤولية الكاملة، جهة عسكرية تقضي على جميع الأطراف، مشترطاً أن تكون جهة لا مناطقية، لا جهوية، لا عنصرية. شخصياً، أجدني اتفق بشدة إلى هذا الطرح من حيث المبدأ، لكن ما أوقع فتحي في التناقض هو اشتراطه لاحقاً أن تستوعب هذه الجهة كل الأطراف وتحتويهم، وهو ذات الباب الذي عادت من خلاله المحاصصة لخراب هذا البلد، وسبب كل هذا الانحدار نحو الهاوية.
ذلك هو التيه بعينه.. أن تبحث عن خلاص بمواصفات مثالية وسط واقع مفخخ بالتناقضات، وأن ترسم مخرجاً وأنت تدور في ذات الحلقات المغلقة. لذا، نظل جميعاً مشدوهين نحو السماء، نحدّق في اللاشيء، ننتظر معجزةً تنهي هذا التيهان الطويل.. دون أن نجرؤ على الاعتراف أن المعجزة، ربما، لم تكن يوماً في السماء، دون أن تجد من يستحقها على الأرض.
فائد دحان