آخر تحديث :الخميس-03 يوليو 2025-02:44ص

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

الأحد - 25 مايو 2025 - الساعة 08:29 م
د. عوض احمد العلقمي

بقلم: د. عوض احمد العلقمي
- ارشيف الكاتب


لعل ماسنحكيه في سردية الليلة أمر يستحق الوقوف عليه ، والتفكير فيه ، والتأمل العميق فيما آلت حياة القوم إليه ، بل لو قلت إن حياتهم قد أوشكت على أن تصبح أثرا بعد عين ، ربما لم أكن مبالغا في ذلك ، مع أنهم كانوا قبل عقد من الزمان قبلة السلا والطرب ، وفأرة مسك للروائح الزكية بكل أنواعها ؛ كالعنبر والبخور والأخضرين والكاذي والفل والحبق ، وغيرها من المشمومات العطرية ، غير أن هذا العقد المنصرم صنع بيننا الحواجز والموانع ، وتقطعت بنا الأسباب ، الأمر الذي جعلني أغيب عن تلك الزاوية البحرية الجميلة التي تحتمي بسلسلة جبلية تحيط بها من الشمال والشرق والجنوب ، مشكلة حرف يو u ، ولكن فتحته باتجاه الغرب ، يطل من تلك الفتحة الوحيدة البحر ، وكأن الله قد أراد تحصين تلك البقعة الجميلة بالجبال المنيعة من ثلاث جهات ، ثم أغلق الفتحة الرابعة ببوابة عظيمة هي البحر ، فجعل السكان ينامون على إيقاع الأمواج المطربة ، ونسمات هوائها العليل ، ويصحون على جيوش الأسماك المشرعة نحوهم ، ليقتاتوا منها ويطعموا البأئس الفقير .


واليوم صحوت باكرا من شدة الحرارة ، فقلت لماذا لا أذهب إلى فقم إلى ذلك الحي الجميل لعلي أفرغ شيئا من أثقال الحياة ، ومثلها من هموم المعاناة القاسية التي خيمت علينا في هذه السنين التعيسة ، لكن ما إن بدوت من المرتفع الشمالي حتى بدت فقم أمام ناظري شاخصة تتساوى مع البحر في الانخفاض ، والجبال تعتليها بمئات الأمتار ، ركنت مركبتي قليلا ، وأول مالفت نظري أكواخها الخشبية والأسمنتية المسقوفة بألواح الزنك ، التي تضاعف درجات الحرارة ، وتزيد من لهيب النار ، تمنيت أن يعثر ناظري على لوح واحد من ألواح الطاقة الشمسية على سطح من أسطح تلك الأكواخ ، ولكن دون جدوى ، مع كثرتها التي تفوق الأرقام في بقية أحياء حاضرة بحر العرب ، عند ذلك أدركت أن الفقر بل المجاعة قد أخذ من هؤلاء القوم كل مأخذ ؛ إذ لم يعد بمقدور أحدهم اقتناء لوح شمسي يلطف له شيئا من الهواء الساخن في كوخه .


واصلت السير بمركبتي نحو حراج الأسماك الذي كان ذات يوم يعج بالأسماك والباعة والمشترين ، فلم أجد إلا شيئا من أطلال المبنى ، وبقايا مركبتين قد أكل الدهر عليهما وشرب ، فانصرفت وأنا أردد قول الشاعر :

وتلفتت عيني ومذ خفيت ** عني الطلول تلفت القلب


وفي هذه الأثناء رأيت شيخا مسنا يصارع الدهر في سيره ، سألته ، ما الذي أصاب البلاد ياشيخ ؟ قال : وهل بقيت لنا بلاد يابني ؟ ثم انصرف عني ، وكأنه لايرى في الحديث جدوى .