آخر تحديث :الخميس-03 يوليو 2025-02:44ص

قراءة في إخفاقات ما بعد السيطرة على عدن

الأحد - 25 مايو 2025 - الساعة 10:44 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


شكّل التحرير العسكري لمدينة عدن في صيف العام 2015 محطةً مفصلية في سياق التحولات السياسية والأمنية التي شهدها الجنوب. وكان من المأمول أن يُؤسّس هذا الإنجاز لمسار جديد نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة، واستعادة ركائز النظام والقانون، وتفعيل مشروع وطني جامع يقوم على مبادئ العدالة، والشراكة، والشفافية. غير أن التطورات اللاحقة، وما رافقها من إعادة ترتيب غير مدروس لسلطات النفوذ، أفضت إلى حالة من الاختلال في المشهد المؤسسي والسياسي، انعكست سلبًا على فرص البناء والاستقرار التي وُلدت عقب التحرير.

أفرز الواقع الميداني، عقب انتهاء المواجهات المسلحة، نمطًا من الحكم المحلي اتسم بالكثير من الارتجال، وتداخلت فيه اعتبارات الدعم الإقليمي غير المشروط، الذي تجاهل في كثير من الأحيان طبيعة الواقع المحلي وتعقيداته. وقد أسفر ذلك عن تمكين عناصر لم تُثبت التجربة قدرتها على مجابهة التحديات الوطنية الملحّة، سواء في إدارة الشأن العام، أو في الالتزام بمعايير الحكم الرشيد، أو في مواكبة متطلبات المرحلة الانتقالية الدقيقة.

وبينما كان من المنتظر أن تسير العملية السياسية نحو تعزيز اللحمة الداخلية، وتثبيت دعائم التماسك الاجتماعي، وضمان حياد المؤسسات، برزت ممارسات ذات طابع إقصائي، ونزعات تتنافى مع مبادئ الدولة المدنية الحديثة. إذ تم ترسيخ معايير الولاء على حساب الكفاءة، وتغليب الانتماءات المناطقية والفئوية على المصلحة الوطنية العليا.

وفي هذا السياق، تفاقمت معاناة المواطنين، وتراجعت مؤشرات جودة الحياة، وتعززت مشاعر الإحباط، ما وسّع الفجوة بين الشارع ومؤسسات الحكم. وأسهم ذلك في حالة من النفور الشعبي تجاه العملية السياسية القائمة، لا سيما مع تصاعد الانطباعات السلبية تجاه بعض الجهات التي كانت تُعد سابقًا من أبرز الداعمين لتحرير الجنوب واستعادة الدولة، قبل أن تتراجع صورتها محليًا نتيجة ما يُنظر إليه كدعم غير مدروس لقوى محلية لم تُوفّق في إدارة مرحلة ما بعد التحرير.

ولا شك أن الدور الإقليمي في الجنوب كان فاعلًا ومؤثرًا في دعم مسار التحرير والاستقرار، إلا أن تقييم هذا الدور يظل ضرورة لا غنى عنها، خصوصًا عند اتضاح التداعيات غير المقصودة لتركيز السلطة والنفوذ في أيدي أطراف لم تتمكن من تمثيل النسيج الاجتماعي بكل مكوناته، أو من التعامل بفعالية مع تعقيدات المرحلة. الأمر الذي يستدعي تبني رؤية استراتيجية شاملة، تتجاوز الحسابات الضيقة، وتراعي المصلحة الوطنية العليا.

لقد شهد الجنوب خلال السنوات الماضية تراجعًا ملموسًا في هيبة المؤسسات، وضعفًا في بنية الدولة، وتدنيًا في مستوى الخدمات الأساسية، إلى جانب بروز أنماط جديدة من ممارسة السلطة تجاوزت في أحيان كثيرة الأطر الدستورية والقانونية، ما أدى إلى تآكل الثقة في مؤسسات الحكم، وتعميق الشعور الشعبي بالحاجة إلى إصلاحات جذرية وشاملة.

ولا يمكن في هذا السياق إغفال مسؤولية القيادة السياسية القائمة، ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي، التي رغم ما أتيح لها من صلاحيات ودعم سياسي إقليمي، لم تتمكن من استعادة ثقة المجتمع، أو من ترسيخ سيادة القانون، أو من بناء منظومة حوكمة فاعلة تعتمد الشفافية والمساءلة. بل بقي الأداء العام رهينًا لتعقيدات سياسية داخلية وخارجية، حدّت من قدرة المجلس على الإمساك بزمام المبادرة، وجعلت منه كيانًا مقيدًا في بنيته ومحدودًا في تأثيره.

إن المسؤولية السياسية والأخلاقية تحتم على الأطراف الفاعلة، محليًا وإقليميًا، إعادة النظر في السياسات المُنتهجة تجاه الجنوب، ولا سيما ما يتعلق بالدعم الموجه إلى مراكز محلية لم تتمكن من التعبير عن الإرادة الشعبية أو تلبية تطلعات ما بعد التحرير. فالحاجة باتت ملحة لمراجعة هذه السياسات، وإعادة تصويبها نحو بناء شراكات ترتكز على الكفاءة، وتُقدّم الصالح العام على الاعتبارات الضيقة.

إن أي مشروع سياسي وطني يهدف إلى تحقيق الاستقرار والتقدم، لا بد له أن يمر عبر بوابة تصحيح العلاقة بين البنية السيادية الداخلية والدوائر المؤثرة على المستوى الخارجي، سواء أكانت هذه الدوائر دولًا، أو منظمات، أو تحالفات إقليمية. ويتطلب هذا التصحيح اعتماد رؤية جديدة، تتجاوز منطق الاستجابات الوقتية، إلى تبني مقاربة طويلة الأمد تستند إلى قيم التفاهم المشترك، وتُعلي من شأن السيادة المتوازنة، وتحترم متطلبات التعاون الدولي. وفي هذا الإطار، فإن الإحجام عن معالجة الاختلالات القائمة لا يمثل مجرد خلل إداري، بل يُعد خطأً استراتيجيًا يزيد من تعقيد الأزمة، ويُوسّع الهوة بين الدولة ومكوناتها المجتمعية.

إن أبناء الجنوب، بعد ما قدّموه من تضحيات، يستحقون قيادة رشيدة تمثلهم بصدق، وتدير مواردهم بكفاءة، وتعيد بناء مؤسساتهم على أساس من العدالة والمساواة وسيادة القانون. وهم يعلّقون آمالًا كبيرة على أدوار أكثر نضجًا ووعيًا، تُدرك أن جوهر الدعم الحقيقي يكمن في تمكين الناس، لا في فرض الوصاية أو تكريس النفوذ.

ومن هذا المنطلق، فإن استعادة ثقة المجتمع تبدأ بتصحيح المسار السياسي، وإعادة تعريف المشروع الوطني بما يتسق مع تطلعات أبناء الجنوب، ويعزز حضور الدولة، ويضمن حياد المؤسسات، ويفكك بُنى الإقصاء، ويكافح الفساد، ويُعيد الاعتبار للمصلحة العامة فوق كل الاعتبارات.

وإذ ندرك حجم التحديات، فإن الفرصة ما زالت قائمة لإنقاذ المسار، شريطة توافر الإرادة السياسية، وتكامل الرؤى، والإيمان بأن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالعدل، وبالشراكة، وبالاحترام العميق لإرادة المواطنين. وعلى جميع الأطراف المعنية أن تتجه بثقة نحو هذه الرؤية الجامعة، التي وحدها يمكن أن تؤسس لغدٍ أكثر توازنًا وعدالة وكرامة.