آخر تحديث :السبت-05 يوليو 2025-10:37ص

عدن في مواجهة النسيان: مبادرات توثيقية تتحدى التهميش

الإثنين - 26 مايو 2025 - الساعة 08:53 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


بقلم؛ م/فضل علي مندوق


في ظل التحديات السياسية والاجتماعية التي تعصف بمدينة عدن، تطلّ الحاجة الملحّة إلى مبادرات ثقافية تحفظ لهذه المدينة العريقة ذاكرتها، وتعيد الاعتبار لهويتها التي تواجه خطر التآكل والتهميش. ومن بين هذه المبادرات، يبرز مشروع وطني نبيل يسعى إلى توثيق التراث العدني بمختلف تجلياته، في محاولة لانتشاله من براثن النسيان المتعمّد أو التهميش غير البريء.

إن ما يعيشه الواقع العدني اليوم، من تفكك قيمي وضياع معالم الهوية، ليس نتيجة طبيعية لحركة الزمن، بل حصيلة لتراكمات من السياسات الإقصائية التي جرفت المدينة عن مسارها التاريخي والثقافي. ولهذا، فإن توثيق التراث – بما يشمله من عادات وتقاليد وأشكال فنية وأدبية وشعبية – لم يعد مجرد نشاط ثقافي أو عمل أرشيفي، بل بات ضرورة سياسية وإنسانية تتعلق بإثبات الوجود والدفاع عن الذات الجمعية.

المبادرة التي يطلقها مثقفون وناشطون ومهتمون من أبناء عدن، تحمل في جوهرها رسالة تتجاوز حدود الحنين، لتكون موقفًا مناهضًا لمحاولات طمس هوية المدينة. فالتراث ليس صورة قديمة نحتفي بها في المناسبات، بل هو سجلٌ حيّ للروح العدنية التي صاغت عبر عقود طويلة ملامح مدينةٍ كانت يومًا مناراتٍ للتعايش والانفتاح والتعدد.

إن هذا المسعى لا يقتصر على جمع الأغاني الشعبية أو توثيق الأهازيج التي تملأ ليالي الفرح، بل يمتد إلى توثيق السلوكيات الاجتماعية وأنماط العيش، والطقوس اليومية التي شكّلت جوهر الذاكرة الجمعية. من تفاصيل الأعراس إلى طقوس العزاء، ومن الأمثال المتداولة إلى الحكايات الشفوية، كلها تمثل ما يشبه "الحمض النووي" لهوية عدن، والتي تتعرض اليوم لضربات متلاحقة من داخل المدينة وخارجها.

السياسات التي سعت لتفكيك النسيج المدني العدني، أضعفت الروح الجمعية، وساهمت في تفتيت المرجعية الثقافية التي كانت تمثل نقطة توازن للمدينة. واليوم، تأتي هذه المبادرات لتقول: "عدن لا تموت"، ما دام هناك من يعيد لملمة شتات ذاكرتها، ويعيد رسم معالمها الأصيلة في مواجهة التزوير والتشويه.

إن دعوة توثيق التراث هي دعوة مفتوحة لكل أبناء المدينة، للباحثين والمثقفين والمربين، ولمن ما زال يحمل في قلبه بعضًا من تفاصيل الزمن العدني الجميل. هي مسؤولية أخلاقية وتاريخية، بل وسياسية، تستدعي من الجميع أن يشارك، ليس فقط بالقول، بل بالفعل، وبالوثيقة، وبالصوت والصورة، وبالرواية الحيّة التي تنتقل من جيل إلى جيل.

في زمن تتآكل فيه الذاكرة، يصبح التوثيق فعل مقاومة، والثقافة جبهة مواجهة، والحفاظ على التراث رسالة خلاص. وعدن، التي طالما منحتنا معاني الحياة، تستحق منّا أن نكون شهودًا على عظمتها، لا شركاء في نسيانها.