كان يوصل الغرور في الجمهوريات الثورية إلى حد إدعاء الألوهية السياسية، وهو الإدعاء الشبيه بالثيوقراطية الملكية في العصور الوسطى،وفي الحقيقة أنهم لم يكونوا يحكموا أكثر من جمهوريات ينخرها الفساد وينهشها الفقر،وبالحديد والنار حكموا شعوبا من المقموعين والضعفاء،والذين لا يملكون خيارآ ولا قرارا،والأسوأ كيف كانوا يدخلون شعوبهم في صراعات مريرة من القتل والدمار والدم.
ولهذا فإنه سيكون من الأولى والأصلح والأجدى أن لا يعاد تكرار إنتاج هكذا تجارب أهلكت الحرث والنسل،وكأن هكذا تجارب قد أصبحت قدرآ حتميآ على الشعوب،وليس هذا فحسب وبل أن هكذا تجارب أصبحت الخيار الوحيد لمجموع شعوب تربض على جغرافيا تكاد تكون الأغلى ثروة ومعادنا ومقدرات، ولولا فساد الطقم والزمر الجمهورية الفاسدة منذ أكثر من ستة عقود لكانت شعوب تلك النظم من أغنى الشعوب.
وهذا سادس الخلفاء الراشدين،وذاك سيف العرب،وثاني ملك ملوك افريقياوثالث الزعيم الخالد،وآخر قائد العبور العظيم،وهلم جرا من التمجيد والشيزوفرينيا السياسية،وهذا بخلاف فصول الكذب والتضليل وصناعة البطولات والأمجاد الشخصية الوهمية والباهتة.
وليس هناك ماهو أكثر من اللحظات العصيبة والمفصلية في كل البيانات والخطابات التضليلية،،وفي كل المراحل التي عصفت فيها الكوارث والأزمات بشعوبها،والتي لم تكن في حقيقتها أكثر من صراعات بينية بين أركان النظام وحماته،والذي وصل تضليلها وكذبها في إحدى الجمهوريات إلى حد إدعاء أن إسرائيل قد شنت هجوماً على أراضيها.
بيد أن اللحظة الفارقة كانت عند الوصول لجنون العظمة،والشعور بالإنتشاء النرجسي،والتضخم الحاد للذات،والمشبع بغريزة القضاء على الخصوم،والمرشحين أن يكونوا خصوم محتملين،وما أن يتم التخلص من الخصوم حتى تتسيد السلطة المطلقة وتتحكم فيما تبقى من هامش الدولة الضعيف والرتيب إداريا وحكوميا،ويصل الأمر إلى درجة الترهل والإسترخاء المطمئن لأستبتاب الحكم والتغول المنظم في كل المغانم والمطامع،والذي يكون قد أمن من بعد توجسا وخوف.
وعندها يكون لا أحد يعكر صفو الذوات الجمهورية،وهي الذوات التي تكون قد وصلت بالفعل لدرجة المعصومية الدكتاتورية،والتي لا تقبل الاعتراض والنقد،وبل ولا تقبل المعارضة بالسر,،وقد يصل بها الحال أن لم تجد خصماً ظاهرا أن تبطش بخصم مفترض صنعه خيالها.
وهي الذات التي تفعل ما تشاء وكيفما تشاء،والتي لا يمكن لأي سلطة أو قوة أن تعترض على ممارساتها ورغباتها،وكل الحاشية والبطانة تأتمر لنزقها وقرارها،والذي يصبح مع الوقت طاغوت إجرامي مستتر في هيئة بشرية،ولكنه يكون قد بلغ مديات أبعد من السياسة والحكم،والذي قد يسفك الدم لمجرد أنه تخيل واهمآ بأن أحدهم نظر إليه بفوقية.
والذات الجمهورية مليئة بالتناقضات والمفارقات،وكثيرة التجاذبات والتقاطعات،وإن كانت تصطنع كل تناقضاتها ومفارقاتها في سبيل تعزيز بقائها وأستمرارها،وهي ذاتها التناقضات والمفارقات التي كلفتها الكثير طوال حقب حكمها،وتارة تتحالف مع التيارات الإسلامية،وتارة تقصيها وتقمعها،وتارة تعيدها للواجهة.
وهي نفس الطريقة التي انتهجتها مع باقي التيارات اليسارية،وبل أن الذات الجمهورية ذهبت إلى ماهو أبعد وذلك حين أسهمت في الإيقاع بمختلف التيارات السياسية المعارضة في الدخول معها في لعبة الأنتخابات،والتي كانت عبارة عن مهرجانات سياسية صورية لتمديد شرعياتها ودستورياتها.
وكل التيارات التي شكلت المعارضات السياسية الصورية للذات الجمهورية لم تستطع أن تتحرر من هيمنتها عليها،وذلك إذا ماستثنينا بعض التيارات المدنية المستقلة،والتي كانت معارضاتها وإلى حد بعيد معارضات حقيقية وجادة،ولكن ومع كل ذلك نجحت الذات الجمهورية في إلغاء وتهميش تلك المعارضات المدنية المستقلة،واستفردت بالحكم مع مراكز القوى والطغم والزمر المقربة والمحسوبة عليها.
ومما لا شك فيه ولا جدال أن الذات الجمهورية كان ولازال امتدادها مرتبط بالسلطة المطلقة للحكم،وهي السلطة التي لم تعبأ بكل المحرمات،ولم تقم وزنا لكل الثوابت،والتي من المفترض أن تكون أمينة على حمايتها وصيانتها،ولهذا فليس غريبا كل الأنهيار الذي حدث عند سقوطها،وذلك عندما وجدت الشعوب نفسها أمام ذوات جمهورية تستميت في البقاء على عروشها ولو كلفها ذلك حياة كل شعوبها،وهو ماحدث بالفعل في بعض جمهوريات الذوات الجمهورية.؟!