آخر تحديث :الخميس-03 يوليو 2025-02:44ص

في رحاب القضاء

السبت - 31 مايو 2025 - الساعة 09:27 ص
د. عوض احمد العلقمي

بقلم: د. عوض احمد العلقمي
- ارشيف الكاتب



لعل في مصطلح القضاء أمورا عظيمة تتجلى في خيال المؤمن ؛ إذ يظن من أول وهلة يسمع فيها نطق تلك المفردة العربية العظيمة ، أو يقرأها على لافتة تعتلي دارا من دور القضاء ، أو في كتاب ما ، أو في دورية أن هذه المفردة تعني قضاء حوائج الناس بالعدل ومن دون تأخير ، وتحل مظلومياتهم بانتزاع المظلمة من الظالم ، وإعادة الحق بإنصاف المظلوم ، فضلا عن الصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر ، وغير ذلك من الأمور التي يعمد إليها خيالك ؛ كالانتصار للمستضعفين ، وردع الطغاة والجبابرة والمتكبرين .

ومع أنني لست ممن يهوون المشارعة ، وارتياد المحاكم ؛ إذ تبنيت منهجا خاصا بشخصي ، فعندما أختلف مع شخص ما في أي قضية أكون متيقنا من أن الحق لخصمي فإنني أتنازل له بذلك الحق ، وأعود إلى منزلي مرتاح البال ، وإذا كان الحق لي يقينا ، فعند ذلك أطلب من خصمي أن يقبل مني يمينا بالله بأن ذلك الحق لي ، وإذا رفض قبول اليمين مني ، أعيد اليمين له ، وإذا ما أقسم بأن ذلك الأمر له فإنني أحتسب ذلك عند الله ، ثم أنصرف مرتاح البال .

لكنني قبل أسبوع وجدت نفسي مضطرا للذهاب إلى إحدى محاكم التوثيق ؛ لعمل وكالة لشخص ما ؛ لمتابعة أمر ما ، في هذه الأثناء وجدت أمام المحكمة بضعة أشخاص مسنين ، حالهم تشكو قسوة الدهر والإنسان ، أظن أنهم قد لحقوا شيئا من زمن الاحتلال البريطاني لحاضرة بحر العرب ، أمام كل واحد منهم مطبعة عتيقة على منضدة متهالكة ، يحكيان حال ذلك الشيخ الطابع ، طلبت من أحدهم أن يطبع لي وكالة ، فاستجاب مرحبا بالأمر ، وأنا أنظر إلى أنامله وآلته الطابعة ، وإذا به يطبع من الكلمة حرفا أو حرفين ، ثم يتوقف لرفع شريط الحبر الأسود إلى الأعلى ، لكي تضرب عليه حروف الآلة الطابعة ، استمر على ذلك الحال في كل كلمة حتى مللت الوقوف وتملكني الصداع من شدة الحرارة وقسوة الشمس .

ولجت من السور إلى حديقة تشكو أشجارها من ثقل الأتربة التي استطابت الإقامة على سوقها وأوراقها ، ومن الأكياس البلاستيكية التي التحفت بها مكرهة ، فضلا عن قنينات المياه الفارغة ، وعلب العصائر التي تنغص حياتها ، انتهيت من الحديقة إلى صالة يملأها المراجعون ، ومن ينتظرون وكالاتهم ، بها الشيء القليل من الكراسي المتهالكة ، نتركها للعجائز والشيوخ الذين لايستطيعون الوقوف ، تعبت من الوقوف ، والحرارة تكاد تقتلني ، نظرت خلسة إلى كل زوايا تلك الصالة اللعينة لعلي أعثر على مكان أجلس فيه ، لكن دون جدوى إلا من حلبة صغيرة في إحدى الزوايا تشبه حلبات المصارعة ، تسللت نحوها ، وإذا بها تشكو من بضع مئات من قنينات المياه الفارغة ، يبدو أن هناك من جمعها من الحراس أو المراسلين لبيعها .

أمضيت على ذلك الحال ثلاثة أيام ، أنتظر تختيم الوكالة ، إذ أبلغونا أن القضاة لايحضرون إلا قاضية واحدة ، وعددنا كبير .

فإذا كان هذا وهو الشيء اليسير من حال القضاء ، فكيف سيكون حال المتقاضين ؟