آخر تحديث :الخميس-03 يوليو 2025-12:03ص

عدن المنهكة... من يجرؤ على التحدث باسمها؟

الأربعاء - 04 يونيو 2025 - الساعة 02:34 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


في ظل تعقيدات المشهد السياسي العدني، وما يعتري المدينة من أزمات متلاحقة تتراوح بين التردي الخدمي والانقسام المجتمعي وانعدام الاستقرار الإداري، تطفو بين الحين والآخر مبادرات فردية تسعى – على حد زعمها – إلى إنقاذ المدينة، وتقديم حلول سياسية بديلة، تطرح تحت لافتة "الحكم الذاتي المؤقت" أو "الإدارة المحلية المستقلة"، بوصفها مسالك جديدة للخروج من نفق التدهور.

لكن المراقبة المتأنية لهذه المبادرات، تكشف عن ملامح قصور عميق في المنطلقات والمنهجيات، مما يثير التساؤلات حول مدى جديتها، وواقعيتها، وقدرتها على تمثيل هموم العدنيين تمثيلًا حقيقيًا جامعًا، لا متعالياً أو متفرداً، بل منخرطًا في الواقع الاجتماعي ومتصلًا بنبض الشارع العدني المكلوم والمثقل بإرث ثقيل من التهميش والتجاهل والإقصاء المزمن.

فمن حيث التكوين، تنبثق هذه الطروحات من سياقات ضيقة تغيب عنها مظاهر التمثيل الشعبي، وتفتقد للبنية التشاورية المؤسسية التي تضمن انخراط مختلف القوى المجتمعية والسياسية والنسوية والشبابية في صوغ الرؤية. وهي إذ تفعل ذلك، تعيد إنتاج نماذج بالية من المركزية، تحت شعارات مموّهة عن المحلية، ما يكشف عن أزمة حقيقية في منطق الشراكة، ويؤشر على عقلية ما زالت مشدودة إلى وهم "الحل من فوق"، بدلًا من الاشتغال الجاد على بناء مسار تصاعدي من القاعدة إلى القمة.

والمفارقة الأبرز أن هذه المبادرات تأتي محملة بخطاب يضخم الدور الذاتي لمُطلقيها، وكأن الحل ينطلق من تجربة فرد أو مجموعة محدودة ترى نفسها مرجعية فوقية، دون أن يكون لها امتداد حقيقي ملموس في المجتمع المحلي، أو تفويض معلن من القواعد الشعبية. وهي بهذا التصور تعيد طرح سؤال الشرعية من جديد: من يملك الحق في التحدث باسم عدن؟ ومن منح هذا الحق؟ وهل يجوز القفز فوق الواقع المركب والمفعم بالتعدد والاختلاف إلى بناء مشهد أحادي الصوت واللون؟ وما يفاقم من أزمة هذه الطروحات أنها تُقصي – بشكل مباشر أو ضمني – الكيانات الحقيقية والفاعلة في المشهد العدني، تلك التي لا يمكن تجاوزها عند أي تفكير في مخرج جماعي جامع، وتتعامل معها إما بوصفها عوائق، أو بصمت ثقيل يحيل إلى نزعة إقصائية مضمرة لا تتواءم مع منطق التعدد ولا فلسفة العمل الوطني.

إن اختزال المدينة العريقة والمجتمع المتنوع في بيان يصدر من جهة أحادية، ويطلب تفويضاً سياسياً شاملاً، دون المرور عبر بوابة التوافق الواسع، يُعد من قبيل المجازفة السياسية، إن لم يكن شكلًا من أشكال الوصاية السياسية. فعدن، بتاريخها النضالي، وتنوعها الثقافي، وتعقيداتها البنيوية، لا يمكن أن تُدار بالعاطفة أو الطموح الفردي، بل تحتاج إلى خطاب سياسي ناضج، وإلى بنية توافقية تؤسس على مبدأ التمثيل، والاعتراف بالآخر، وتقديم المصلحة الجمعية على نزعة الاستحواذ، وإلى مشروع ينمو من رحم المدينة، لا يُسقط عليها من أعلى كما تسقط الأوامر أو التعاميم.

ومن المؤشرات التي تعزز هذا القلق المشروع، تلك الطروحات التي تقترح إنشاء كيانات تنفيذية مستقلة، أو صناديق مالية تدار من قِبل لجان محددة الصلاحيات، دون ضمانات رقابية واضحة، أو مرجعيات دستورية ومجتمعية متفق عليها. وهذا النهج، على الرغم من شعاراته الإصلاحية، لا يفتح أبواب الإصلاح، بل يعمّق فجوات عدم الثقة، ويفتح شهية الفساد تحت غطاء المبادرة، ويعيد إنتاج ذات المنظومات الإدارية المترهلة التي فشلت في السابق تحت شعارات وطنية كبرى، لكنها افتقرت إلى أدوات التنفيذ النزيه والحوكمة الرشيدة.

أما خطاب هذه المبادرات، فيغلب عليه الطابع الخطابي الوعظي المفعم بالاستدعاء العاطفي، دون سند تنظيمي أو برنامج عمل تفصيلي، يعكس رؤية استراتيجية قابلة للتطبيق، بل يكتفي بتكرار شعارات مستهلكة عن السيادة والكرامة والهوية، دون أن يقدم خطة انتقالية واقعية، أو تصورات مالية وإدارية دقيقة، أو حتى تصور واضح لإدارة التعدد المجتمعي والسياسي القائم في عدن. وهي بذلك تُكرّس نموذجًا إعلاميًا أكثر منه مشروعًا مؤسسيًا، يُبنى عليه في الحاضر والمستقبل، وتحوّل القضايا الجوهرية إلى مواد للاستهلاك السياسي والإعلامي المؤقت.

وما يغيب عن هذه المبادرات – في كثير من الأحيان – هو الوعي بأن عدن لا تحتاج إلى المزيد من البيانات، بل إلى عقد وطني عدني حقيقي، يلتئم فيه الفرقاء المحليون على مائدة جامعة، يؤسسون من خلالها لعقد اجتماعي وسياسي عادل، يتكئ على التشاور والتكافؤ، لا على المصادرة والانفراد، ويضع ملامح طريق واضح المعالم، يحترم التعدد، وينصت لنبض المجتمع، لا لصوت النخبة المغلقة على ذاتها.

إن عدن مدينة لا يُمكن إعادة بنائها بقرارات فردية أو بيانات أحادية تصاغ في الغرف المغلقة، ولا بانتزاع تمثيل شعبي مفترض دون سند جماهيري، ولا برؤى تجريبية مفصّلة على مقاس مجموعة بعينها، بل هي في حاجة ماسة إلى مشروع وطني محلي جامع، يتكئ على الحوار، والتوافق، والتعدد، ويأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن عدن ليست مجرد جغرافيا قابلة للتقسيم أو المزايدة، بل كيان تاريخي حيّ، لا يعترف إلا بالشرعية التي تولد من رحم الإجماع لا الانفراد، ومن منطق الشراكة لا الهيمنة، ومن رؤية تتجاوز اللحظة إلى بناء مستقبلي يستنهض الإنسان قبل البنيان، ويعيد للمدينة روحها ومكانتها، بما يليق بتاريخها وكرامة أهلها.