آخر تحديث :السبت-16 أغسطس 2025-12:06م

علاقة العلمُ بالثقافةجدليةُ الروحِ والعقلِ في بناءِ صروحِ الحضارة

الخميس - 05 يونيو 2025 - الساعة 08:35 ص
علوي سلمان

بقلم: علوي سلمان
- ارشيف الكاتب


في فضاءِ الوجودِ الشاسع، حيثُ تتشابكُ خيوطُ المعرفةِ وتتداخلُ ألوانُ التجربةِ الإنسانيةِ عبرَ العصور، يبرزُ مفهومُ "العلم" و"الثقافة" كركيزتينِ أساسيتينِ تُشكلانِ معًا نسيجَ الحضارةِ البشريةِ المُعقد. للوهلةِ الأولى، قد يبدوانِ ككيانينِ منفصلينِ تمامًا؛ أحدهما يُعنى بالحقائقِ المجردةِ، والمنهجِ التجريبيِّ الصارمِ، والبحثِ عن القوانينِ الكونيةِ التي تُحكمُ المادةَ والطاقة، والآخرُ يُعنى بالقيمِ الروحيةِ، والمعتقداتِ المتوارثةِ، والفنونِ التي تُلامسُ الوجدان، والتقاليدِ التي تُشكلُ هويةَ المجتمعِ وضميرهُ الجمعي. ولكنَّ نظرةً أعمقَ، تُكشفُ عن علاقةٍ جدليةٍ لا تنفصمُ عُراها، وتفاعلٍ عضويٍّ مُستمرٍ، يُشبهُ نهرانِ متوازيانِ يُغذيانِ بعضهما البعض، ويُشكلانِ معًا مجرى الحياةِ الإنسانيةِ المتدفقةِ نحو آفاقٍ جديدة.


إنَّ العلمَ، في جوهرهِ، ليسَ كيانًا مُعلقًا في الفراغِ أو مُنبتًا عن سياقهِ. إنهُ نتاجٌ أصيلٌ لبيئةٍ ثقافيةٍ مُحددةٍ تُوفرُ لهُ التربةَ الخصبةَ التي تُغرسُ فيها بذورُ الفضولِ المعرفيِّ والرغبةِ في الاستكشافِ والتساؤل. فالقيمُ الثقافيةُ التي تُعلي من شأنِ العقلِ، وتُشجعُ على النقدِ البناءِ، وتُحفزُ على البحثِ عن الحقيقةِ المجردةِ بعيدًا عن الخرافةِ والجمود، هي التي تُمهدُ الطريقَ لظهورِ المنهجِ العلميِّ وتطورهِ.


تاريخيًا، تُقدمُ لنا الحضاراتُ شواهدَ ساطعةً على هذا الارتباط. ففي عصورٍ ازدهرتْ فيها الثقافةُ الإسلاميةُ، كانَ تقديرُ العلمِ والعلماءِ، وتشجيعُ الترجمةِ من اليونانيةِ والفارسيةِ والهنديةِ، وبناءُ المكتباتِ والمراصدِ ودورِ الحكمةِ، جزءًا لا يتجزأُ من النسيجِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ. هذا المناخُ الثقافيُّ المُشجعُ أدى إلى نهضةٍ علميةٍ غيرِ مسبوقةٍ امتدتْ لقرونٍ، وأضاءتْ دروبَ أوروبا المظلمةِ آنذاك، مُقدمةً إسهاماتٍ جوهريةً في الفلكِ والطبِّ والرياضياتِ والكيمياء. وكذلكَ في عصرِ النهضةِ الأوروبيةِ، كانَ التحولُ الثقافيُّ نحو الإنسانيةِ والعقلانيةِ، وكسرُ قيودِ الفكرِ اللاهوتيِّ المُغلقِ الذي كانَ يُهيمنُ على العصورِ الوسطى، هو الشرارةَ التي أطلقتْ ثورةً علميةً غيرتْ وجهَ العالمِ بأسره. إنَّ اللغةَ التي يُفكرُ بها العلماءُ، والأدواتِ التي يُصنعونها، والمشكلاتِ التي يُحاولونَ حلها، وحتى الأسئلةَ التي يطرحونها، كلها مُتأثرةٌ بشكلٍ مباشرٍ بالخلفيةِ الثقافيةِ التي ينتمونَ إليها، والتي تُحددُ أولوياتِ البحثِ وتُشكلُ الإطارَ المعرفيَّ العام.


وفي المقابل، فإنَّ العلمَ ليسَ مجردَ مُتلقٍ سلبيٍّ من الثقافة، بل هو قوةٌ دافعةٌ جبارةٌ تُعيدُ تشكيلَ ملامحِها وتُغيرُ مساراتها بشكلٍ جذري. الاكتشافاتُ العلميةُ الكبرى لا تُضيفُ حقائقَ جديدةً إلى قاموسِ المعرفةِ فحسب، بل تُحدثُ زلازلَ في الفهمِ البشريِّ للكونِ والوجودِ، فتُغيرُ النظرةَ إلى الذاتِ وإلى مكانةِ الإنسانِ في هذا الكونِ الفسيح. فمنذُ ثورةِ كوبرنيكوسَ التي أزاحتِ الأرضَ من مركزِ الكونِ الأنثروبولوجيِّ، إلى نظريةِ داروينَ التي غيرتْ فهمنا لأصلِ الحياةِ وتطورها، وصولًا إلى فيزياءِ الكمِّ التي كشفتْ عن غرابةِ الواقعِ على المستوىِ الذريِّ ودحضتْ الكثيرَ من البديهياتِ الحسيةِ التي كانتْ تُشكلُ أساسَ الفكرِ البشري، كلُّ هذهِ الاكتشافاتِ لم تكنْ مجردَ حقائقَ علميةٍ تُضافُ إلى كتاب، بل كانتْ محفزاتٍ لثوراتٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ وأخلاقيةٍ أعادتْ صياغةَ الثقافةِ الإنسانيةِ برمتها، وأجبرتها على إعادةِ تعريفِ مفاهيمَ مثلَ "الحقيقة"، "الوجود"، "الوعي"، و"المعنى".


أما التطبيقاتُ التكنولوجيةُ المُنبثقةُ عن العلم، فهي تُغيرُ ملامحَ الحياةِ اليوميةِ بشكلٍ جذري، فتُعيدُ تشكيلَ العاداتِ والتقاليدِ وأنماطِ التواصلِ الاجتماعيِّ، بل وتُعيدُ تعريفَ مفهومِ المجتمعِ نفسه. فالثورةُ الصناعيةُ، التي غيرتْ وجهَ العملِ والإنتاجِ والحياةِ الحضرية، ثمَّ الثورةُ الرقميةُ التي نعيشُها اليومَ بكلِّ تجلياتها من إنترنتٍ وذكاءٍ اصطناعيٍّ وشبكاتِ تواصلٍ اجتماعيٍّ، لم تُغيرْ فقطْ طريقةَ عملنا وإنتاجنا، بل غيرتْ طريقةَ عيشنا، وتفكيرنا، وتفاعلنا معَ العالمِ ومعَ بعضنا البعض، مُحدثةً تحولاتٍ عميقةً في الهويةِ الفرديةِ والجماعية. كما أنَّ العلمَ يُثيرُ قضايا أخلاقيةً جديدةً مُعقدةً (مثلَ الهندسةِ الوراثيةِ، والاستنساخِ، والذكاءِ الاصطناعيِّ، وتعديلِ الجينات، وتحدياتِ الخصوصيةِ في العصرِ الرقمي)، مما يُجبرُ الثقافةَ على إعادةِ تقييمِ قيمها ومعتقداتها، ويُحفزُ على حوارٍ مستمرٍ حولَ حدودِ المعرفةِ ومسؤوليةِ الإنسانِ تجاهَ ما يُبدعهُ، وكيفَ يُمكنُ أن يُستخدمَ هذا الإبداعُ لخير البشريةِ لا لضررها.


جدليةُ التفاعلِ والصراعِ نحو النضج:


العلاقةَ بينَ العلمِ والثقافةِ ليستْ دائمًا علاقةً وادعةً أو متناغمة. فكثيرًا ما يحدثُ صدامٌ بينَ اليقينِ العلميِّ الذي يُقدمهُ البحثُ التجريبيُّ القائمُ على الدليلِ والبرهان، وبينَ الراسخِ الثقافيِّ الذي تُشكلهُ التقاليدُ والمعتقداتُ المتوارثةُ التي قد تُقاومُ التغيير. تاريخُ العلمِ مليءٌ بقصصِ الصراعِ بينَ الأفكارِ الجديدةِ التي تُقدمها الاكتشافاتُ العلميةُ وبينَ المقاومةِ الثقافيةِ لها، كما حدثَ معَ غاليليو في صراعهِ المريرِ معَ الكنيسةِ حولَ مركزيةِ الشمسِ ودورانِ الأرض، أو معَ نظريةِ التطورِ التي واجهتْ مقاومةً عنيفةً في بعضِ الأوساطِ الدينيةِ والثقافيةِ حتى يومنا هذا.


هذا الصراعُ، وإن كانَ مؤلمًا أحيانًا ويُخلفُ جراحًا في جسدِ المجتمعِ ويُعيقُ التقدمَ لفترات، إلا أنهُ غالبًا ما يُفضي في النهايةِ إلى تطورٍ في الفهمِ البشريِّ، وإلى إعادةِ تعريفٍ للعلاقةِ بينَ المعرفةِ والقيمِ، مُمهدًا الطريقَ لثقافةٍ أكثرَ نضجًا ومرونةً وقدرةً على استيعابِ الجديدِ دونَ التخليِ عن الأصيلِ من قيمها. إنهُ صراعٌ يُجبرُ الثقافةَ على التفكيرِ النقديِّ في مسلماتها، ويُجبرُ العلمَ على إدراكِ أبعادهِ الأخلاقيةِ والاجتماعية.


الخلاصة:


العلمُ والثقافةُ ليسا كيانينِ منفصلينِ يُمكنُ أن يُزهرَ أحدهما بمعزلٍ عن الآخر. إنهما نسيجٌ واحدٌ مُحكم، يُغذي كلُّ جزءٍ منهُ الآخرَ في دورةٍ لا تنتهي. فالثقافةُ تُوفرُ للعلمِ الإطارَ والقيمَ التي تُمكنهُ من النموِّ والازدهارِ بمسؤوليةٍ وتوجيهٍ أخلاقيٍّ، والعلمُ يُقدمُ للثقافةِ الأدواتِ والمعارفَ التي تُمكنها من التطورِ والتكيفِ معَ تحدياتِ العصرِ المُتسارعةِ، وتُثري رؤيتها للوجود.


بناءَ حضارةٍ مزدهرةٍ ومستدامةٍ لا يكتفي بالتقدمِ العلميِّ وحده، بل يتطلبُ فهمًا عميقًا لهذهِ الجدليةِ المعقدة، وسعيًا دائمًا لتعزيزِ الحوارِ بينَ العقلِ والروح، بينَ المنهجِ العلميِّ الصارمِ والقيمِ الإنسانيةِ النبيلةِ التي تُعطي للحياةِ معناها. ليُصبحَ العلمُ بوصلةً تُضيءُ دروبَ المستقبلِ المجهولِ وتُكشفُ أسرارَ الكون، والثقافةُ مرساةً تُثبتُ سفينةَ الوجودِ الإنسانيِّ في بحرِ التغيراتِ المتلاطمة، مُبحرينَ نحو أفقٍ تُعانقُ فيهِ المعرفةُ الحكمةَ، ويُزهرُ فيهِ التقدمُ بالقيمِ، وتُصبحُ البشريةُ أكثرَ وعيًا وإنسانيةً في رحلتها الأبديةِ نحو الفهمِ والكمال.


علوي سلمان