آخر تحديث :الجمعة-13 يونيو 2025-06:11م

عدن. من مدينة حضارية إلى ساحة صراعات سياسية

الإثنين - 09 يونيو 2025 - الساعة 06:04 م
رشيد عجينه

بقلم: رشيد عجينه
- ارشيف الكاتب


لم تكن مدينة عدن يومًا مدينة عادية في محيطها العربي. بل كانت، ولزمن طويل نموذجًا حيًا للمدنية الكوزموبوليتية؛ مدينة تحتضن شعوبًا وأديانًا وثقافات متباينة، جمعتها الجغرافيا وروح التعايش، لا الأيديولوجيا ولا القسر ..


في ستينيات القرن الماضي ، وقبل جلاء الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، شكّلت عدن فسيفساء سكانية فريدة : إنجليز ، هنود ، أفارقة ، وعرب ومن مناطق جنوبية عاشوا في انسجام قلّ نظيره. كانت الانتخابات تُجرى بحرية، والسلطات القضائية والإدارية تمارس عملها بمعايير مؤسسية، والمذاهب الدينية تمارس شعائرها دون تدخل. حتى الطقوس الفارسية والهندوسية وجدت مكانًا لها على هامش المدينة دون أن تهدد نسيجها المدني.


لكن هذه الصورة سرعان ما تلاشت بعد الاستقلال.


فمع تأسيس جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بدأت موجات الهجرة من الريف إلى عدن، وتم نقل الثقافة الريفية، بعاداتها وسلوكياتها، إلى فضاء مدني لطالما بُني على قيم الانفتاح والتنوع. أعيد تشكيل الهوية الثقافية قسرًا؛ فأصبح الريف هو القالب المفروض، وتم تهميش الرمزية العدنية لصالح هوية جنوبية يمنية عامة، بل حتى اسم "عدن" تم إلحاقه برقم إداري: "المحافظة الأولى".


في العقود اللاحقة، وتحديدًا خلال فترة الحكم الاشتراكي، تبنّت الدولة ما عُرف بـ"الاشتراكية العلمية"، حيث تمّت محاربة رجال الدين، وغُيبت الثقافة المحلية لصالح رموز سياسية وأسماء مؤدلجة. وبفعل الصراع المناطقي داخل الحزب الاشتراكي، تفجرت أحداث دامية، أبرزها مجزرة 13 يناير 1986م، التي أنهت فعليًا مشروع الدولة الاشتراكية، ودمرت أحد أقوى الجيوش العربية في المنطقة نتيجة صراع مناطقي لا وطني.


ثم جاءت الوحدة اليمنية عام 1990، فدخل الجنوب في شراكة غير متكافئة مع الشمال، دون ضمانات أو اتفاقات دولية. سُلمت الدولة الجنوبية بجيشها وعتادها ونظامها الإداري دون توثيق، وتم تنزيل علم الجنوب في عدن دون أن يُرفع علم الشمال في صنعاء بالمقابل. بدأ الشماليون بالتغلغل في مفاصل الدولة، وتمت إعادة تشكيل التركيبة السكانية لعدن مرة أخرى عبر موجات نزوح وهجرة واسعة، بينما ضُعفت نسب تمثيل الجنوبيين في مؤسسات الدولة لصالح الشماليين.


عدن، التي كانت يومًا عاصمة للتنوع والنظام، تحولت إلى مدينة مهمشة. ثم جاءت رياح "الربيع العربي" لتخلط الأوراق مجددًا، ومع أحداث 2015، رحل الشماليون من عدن، وبرزت قوة جديدة من محافظات الجوار، استحوذت على الأراضي والتجارة والمال، لكنها لم تبنِ الإنسان ولا المؤسسات، ولم تعالج انهيار الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والصحة والتعليم.


اليوم، تعيش عدن على وقع ما يُعرف بـ"سلطة الأمر الواقع"؛ حكومة تتقاسمها القوى الإقليمية والمحلية وفق منطق المناصفة والمصالح، لا منطق الدولة أو المواطنة. لا قرار وطني، ولا مشروع لإحياء المدينة، سوى استثمار موقعها الجغرافي لخدمة أجندات خارجية.


في ظل هذا الواقع، أصبح من المشروع التساؤل:

هل عدن مؤهلة اليوم لتكون "عاصمة مؤقتة" لدولة تائهة؟

وهل العاصمة يُفترض أن تكون موقعًا لتكريس الصراعات والمعسكرات، أم مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا آمنًا؟


عدن ليست مساحة فارغة تُملأ بالصراعات، بل هي جوهرة اقتصادية عالمية، وواحدة من أقدم الموانئ في المحيط الهندي. ومن الظلم أن تُختزل في كونها ساحة لتصفية الحسابات السياسية أو الجهوية.


ما تحتاجه عدن اليوم ليس منصبًا سياسيًا أو لقب "عاصمة مؤقتة"، بل اعترافًا حقيقيًا بقيمتها، وهويتها، وتاريخها. وإلا فإن تكرار الدروس القاسية سيبقى قدر هذه المدينة العريقة ...