آخر تحديث :الإثنين-16 يونيو 2025-07:05ص

مها عوض... واقعة عدن والانكشاف العميق

الأحد - 15 يونيو 2025 - الساعة 09:06 ص
فتحي ابو النصر

بقلم: فتحي ابو النصر
- ارشيف الكاتب


وما زالت كما هي، ثابتة كالجبل، لا تساوم على مبادئها

فتحي أبو النصر

في مساء يوم السبت، الخامس عشر من يونيو 2025، شهدت مدينة عدن واقعة اعتقال تعسفي لم تكن حادثة أمنية عابرة، بل لحظة مفصلية تكشف ما آلت إليه علاقة السلطة بالحريات العامة، خاصة حين تتقاطع مع النشاط النسوي.

اعتُقلت الناشطة الحقوقية والمدربة البارزة مها عوض، إلى جانب المحامية عفراء الحريري، أثناء مشاركتهما في وقفة احتجاجية سلمية ضمن ما بات يُعرف بـ"ثورة النسوان – عدن"، وهي تحرك نسوي تعبيري يرفض تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وانهيار الخدمات الأساسية، ويواجه بالوعي والمناداة العلنية أشكال الإقصاء وانتهاك الحقوق اليومية للمواطنين، وبالأخص النساء.

تذكروا لم تكن مها عوض وجها جديدا في الميدان. بل كانت وما زالت واحدة من أكثر الشخصيات النسوية حضورا في الشأن الحقوقي اليمني، بما راكمته من معرفة وتدريب وخبرة تحليلية عبر أكثر من 21 عاما من العمل المستمر في مجالات النوع الاجتماعي، والعدالة الانتقالية، وبناء السلام، وإصلاح السياسات القانونية، ورصد التمييز ضد النساء.

وطوال هذه السنوات، ساهمت في صياغة تقارير استراتيجية، وأدلة تدريبية، وأوراق سياسات، تناولت ببعد تحليلي دقيق قضايا المرأة، وحمايتها أثناء النزاعات، ومكانتها في عمليات صنع القرار، والتنمية، والمشاركة السياسية.

على إن الاعتقال الذي تعرضت له مها لم يكن معزولا عن هذا التاريخ، بل جاء نتيجة مباشرة له.

بل لم تُعتقل مها لأنها "خالفت أمرا أمنيا" كما قد يروج، بل لأنها تمثل تهديدا للجمود، بحضورها المستقل، وخطابها الصريح، ومطالبتها بالحق في الكرامة، والخدمات، والمواطنة الكاملة.

وفي تلك الوقفة، لم تكن مها تطالب سوى بما يُفترض أنه بديهي: كهرباء، ماء، رواتب، تعليم، عدالة، شفافية.

والشاهد إن ما جرى داخل مركز شرطة المعلا كان مهينا، لا لمها فقط، بل لفكرة الاحتجاج السلمي بحد ذاتها.

أن تحتجز ناشطة مدنية في قلب مدينة تُفترض فيها قيم الدستور والقانون، وأن يُمنع عنها شراء قارورة ماء أثناء الاحتجاز، وأن تلاحق بعد الإفراج، كل ذلك لا يترك مجالا للبس: نحن أمام سلطة تنزعج من الصوت النسوي المستقل، وتتعامل مع الحركة المدنية باعتبارها تهديدا أمنيا.

لكن هذه اللحظة، بما تحمله من قسوة، لا تنجح في إخماد حضور مها عوض، بل تُعيد تثبيت موقعها كصوت تاريخي داخل الحقل المدني النسوي اليمني. ليست هذه أول مرّة تُدفع فيها النساء ثمن مواقفهن، لكنها لحظة واضحة، لا لبس فيها: استهداف ناشطة سلمية بسبب مطالبتها بالحقوق الاجتماعية، هو مؤشر خطير على تراجع الهامش المدني، وتغوّل الأمن على الحياة اليومية.

بعد الإفراج عنها، لم تلجأ مها إلى الصمت. لم تُساوم. لم تُغيّر خطابها. بل ظهرت، كما كانت، بصوت واضح، يحمل المسؤولية، ويشير إلى الخلل، دون تردد.

فمن عاشر القانون يعرف متى يتم خرقه، ومن مارس التدريب يعرف متى يستخدم القمع كرسالة سياسية.

على إن ما حدث في عدن، في يونيو 2025، ليس تفصيلا في سيرة ناشطة. هو لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين النساء والمجال العام، بين الحريات والسلطة، بين الشارع والصمت الرسمي. مها عوض لم تكن ضحية تلك الليلة، بل شاهدة على زمن يُضيّق فيه الخناق على الأصوات الحرة. وما كُتب في تلك الوقفة، لم يكن بيانا نسويا فحسب، بل وثيقة كاشفة عن واقع الدولة، وحدود السكينة، وسقف ما يمكن قبوله أو الصمت عنه.

..علاقتي بمها تمتد لأكثر من عشرين عاما، منذ أن عرفتها وهي ترفض، وما زالت كما هي، ثابتة كالجبل، لا تساوم على مبادئها، ولا تتراجع عن مواقفها. شخصية نادرة، لا تتكرر، تظل شامخة في زمن يتغير.

ومها محمد عوض محمد من مواليد يونيو 1975 بمحافظة عدن، ودرست الشريعة والقانون في جامعة صنعاء. عملت في مسيرتها القانونية على تمكين المرأة، كأساس للحوار السياسي، وإعداد مواد حول قضايا الجندر، والاتصال مع المنظمات غير الحكومية العاملة في مراقبة النوع الاجتماعي، وتنظيم ورش عمل حول النوع الاجتماعي. والعمل في تنمية المجتمع.

هي عضو في اللجنة الوطنية للمرأة منذ عام2000، تولت فيها العديد من المسؤوليات كمدير للرقابة والتقييم، ومساعد مشروع الصحةالإنجابية، ومشروع النوع الاجتماعي في التخطيط التنموي، ومنسق بناء القدرات لأعضاءالمجالس المحلية.

***

تراتيل حرية..

-1-

صباح الحرية يا مها، أنت لست وحدك.

أنت صرخة في وجه القمع، وشمس تشرق رغم الغيوم.

وفي كل خطوة تخطينها، تكتبين فصلا جديدا من النضال. أنت رمزٌ للثبات، وقوةٌ لا تنكسر.

لث لن تُسكتك القيود، ولن تُطفئ عزيمتك العواصف.

فأنت الحلم الذي لا يموت، و الذي لا ينطفئ.

فيما صوتك صدى لآهات طالما كُتِمت، وصرخةٌ لحقوق طالما سُلبت.

ويا مها، أنت لست وحدك، فكلنا معك، نساندك، ونقف إلى جانبك في كل خطوة.

صباح الحرية، صباحك أنت يا مها .

-2-

في مساء بلا تاريخ، كانت تمشي دون بكبرياء ،و دون جدار، كأن المدينة نبتت من تحت قدميها، وكأن الأزقة تناديها بأسماء مفقودة.

لم تكن امرأة تمشي، بل شظايا وطن ترفض أن تُكنس.

مها ليست جسدا، بل ورقة سقطت من يد التاريخ، فالتقطتها الشوارع.

تحمل دفترا مليئا بالأسئلة، وذاكرة من جمر، وتكتب بالخط المائل حكاية الكهرباء حين تُسرق، والماء حين يُقطع، والتعليم حين يُباع مثل الدخان الرخيص.

حين قالوا لها "اخفضي صوتك"، ردت: إن سكتُّ، من سيوقظ الحجر؟ وحين قالوا "البلد ضيقة على حنجرتك"، مدت يدها فاتّسعت.

كذلك لم تكن تمشي، كانت تكتب.

كل خطوة جملة، كل دمعة على خدها اتفاقية لم تُنفّذ. اعتقلوها كما يُعتقل الضوء في آخر النفق، وحاصروها كما تُحاصر فكرة تسربت من طاولة مفاوضات.

و..لم يعرفوا أن مها أكبر من لحظة، أوسع من زنزانة، وأنها لا تحشر أو تشوه في تقرير أمني.

و مها صوت العجائز في صفوف الخبز، وصورة الطباشير حين تُمنع عن السبورة، وهي بنت تكتب اسمها على جدار مهدوم: "أنا هنا".

ولم تكن رمزية، كانت لحما حيا يصرخ في وجه التواطؤ.

وفي فمها لغة مكسورة ترفض الترميم، وفي عينيها اتساع وطن لا يعترف بالموت العادي.و هي التي حين يُغلقون عليها الباب، تفتح نافذة في الهواء، وتمشي منه.

و مها لا تُهزم، لأن من يشبه التراب لا يُقتلع.

ومها لا تُنسى، لأنها ليست لحظة، بل سؤالٌ يمشي على قدمين.