فـي كل صباح، وقبل أن يحتسي اليمني قهوته، يفتح هاتفه ليرى الرسائل، يتفقد "الـراتب نـزل؟"
فـي ظلّ الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد، لا يزال الموظف اليمني - في مختلف القطاعات المدنية والعسكرية - يواجه واحدة من أكثر صور المعاناة قسوةً وإهمالًا "تأخر صرف الرواتب"، أو انقطاعها الكامل في بعض المناطق، دون مبررات واضحة أو التزام رسمي يبعث على الثقة.
لقـد تحوّل سؤال "هل نزل الراتب؟"، إلى لازمة يومية يتداولها الناس في المقيل، والمكتب والشوارع وعلى وسائل التواصل والنقل، وحتى على أبواب الجوامع، وهو سؤالٌ لم يعد بريئًا أو عابرًا، بل بات يعكس أزمة عميقة في منظومة الالتزام بالحقوق الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها الحق في أجرٍ عادل ومنتظم مقابل الخدمة العامة.
إن الموظـف اليمني، الذي ما يزال يؤدي مهامه في بيئة مضطربة سياسيًا وأمنيًا، لم يتخلّ عن مسؤوليته المهنية رغم تآكل القدرة الشرائية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وانهيار العملة.
ومـع ذلك، يُقابل هذا الصمود بصمت رسمي مقلق، وغيابٍ لأي سياسة شفافة تضمن انتظام صرف المرتبات أو توفر حدًّا أدنى من الحماية الاجتماعية.
لقـد شهدنا في السنوات الماضية، إطلاق العديد من التوصيات والوعود، سواء عبر البيانات الحكومية أو عبر اللقاءات الإعلامية، تتعلق بمعالجة وضع الرواتب، وتفعيل الإيرادات، وتحسين الإدارة المالية؛ لكن هذه التصريحات غالبًا ما بقيت في نطاق الخطاب، دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ العملي، أو أن تُرفق بجداول زمنية ومؤشرات قياس قابلة للتتبع والمساءلة.
إن اسـتمرار هذا الوضع يهدّد ما تبقى من ثقة المواطن في المؤسسات، ويُعمّق من الشرخ بين الدولة ومواطنيها. فحين يتحوّل الراتب - وهو أحد أبسط أوجه العلاقة بين الدولة ومستخدميها - إلى قضية مُعلّقة دون حل، فإن آثار ذلك لا تقف عند البُعد المعيشي فحسب، بل تمتد لتطال الإحساس بالانتماء، والعدالة، والاستقرار الاجتماعي.
لقـد آن الأوان لأن تتعامل الجهات المعنية، على المستويين المركزي والمحلي، مع قضية الرواتب باعتبارها أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل أو التسييس، كما أن المنظمات الدولية والجهات المانحة، التي تتابع الوضع الإنساني في اليمن، مدعوة إلى دعم حلول حقيقية تضمن انتظام الأجور، بعيدًا عن الحسابات الضيقة أو الاصطفافات القائمة.
فالراتـب ليس امتيازًا، ولا هبة، بل هو حقٌّ دستوري وقانوني وإنساني لا يسقط بالتقادم، ويجب أن يُصان في كل الظروف.
وما لم يُعالَج هذا الملف بجدية، فإن تداعياته الاقتصادية والاجتماعية قد تكون أكبر بكثير من أي توقعات.
.