إن بناء الدول لا يرتكز على قوة الأشخاص أو كفاءة فرد واحد مهما علا شأنه، بل على صلابة ورسوخ المؤسسات. هذه المؤسسات هي الهياكل التي تضمن الاستمرارية للدولة، وتصون كرامة الإنسان، وتؤمن مستقبل الأجيال. إنها الفارق الجوهري بين الدول المستقرة التي تتطور ويزدهر مواطنوها، وتلك التي تتأرجح بين الأزمات والتدهور.
لقد سئم الناس، ليس فقط من الوجوه المتكررة في سدة الحكم، بل من نموذج الحكم الذي يجعل مصير الوطن ومستقبل الأجيال مرهونًا بإرادة شخص واحد أو مجموعة محدودة من الأشخاص. هذا النموذج، بغض النظر عن نوايا أصحابه، يؤدي حتمًا إلى نتائج كارثية:
* عدم الاستقرار: عندما يُبنى النظام على شخص، فإن غياب هذا الشخص (بالموت، العزل، أو أي تغيير) يعني تهديدًا بانهيار المنظومة بأكملها. يصبح الوطن عرضة للصراعات على السلطة، وتصبح مسيرة التنمية والتخطيط للمستقبل مستحيلة.
* الفساد المستشري: في غياب المؤسسات القوية، تتحول الولاءات من الدولة والقانون إلى الأشخاص. هنا، تُصبح المحاسبة شبه مستحيلة، ويُفتح الباب على مصراعيه لاستغلال النفوذ، وتبديد الموارد، وتجذير الفساد الذي ينخر في جسد المجتمع والدولة.
* تدهور الخدمات: عندما تتخذ القرارات بناءً على مصالح شخصية أو فئوية، لا على أسس الكفاءة والاحتياج الحقيقي للمواطنين، فإن الخدمات الأساسية تتهاوى. المستشفيات تفتقر للمعدات، المدارس تفتقد للمعلمين، والطرق تُهمل، مما يؤثر سلبًا على جودة حياة المواطن.
* فقدان الثقة: المواطن يفقد إيمانه بالدولة عندما يرى أنها تُدار بالعلاقات الشخصية والمصالح الضيقة بدلًا من الشفافية والعدالة. هذه الثقة هي أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبدونها تتصدع أركان الدولة ويُصبح الانتماء مجرد شعار.
بناء المؤسسات في جنوب اليمن: تحديات وفرص
في ظل الوضع الراهن في جنوب اليمن، حيث تتعدد مراكز القوى وتتداخل الأجندات، يصبح الحديث عن بناء المؤسسات أكثر إلحاحًا. إن تكرار المشهد السياسي الذي أشرنا إليه سابقًا، حيث يتم التحالف مع خصوم الأمس لتشكيل كيانات قيادية، يؤكد الحاجة الماسة لكسر هذه الدورة المفرغة.
إن عدم شعور المواطن الجنوبي بأن قراره بيده، وأن مصالحه في أيدٍ أمينة، ينبع إلى حد كبير من غياب المؤسسات الراسخة التي تفصل بين السلطات، وتضمن الشفافية، وتكفل المساءلة. عندما تتغير القيادات وتظل المشكلات الجوهرية قائمة، وعندما تُتخذ القرارات المصيرية دون مشاركة شعبية حقيقية أو دراسة كافية، فإن الشعور بانعدام الأمان يتفاقم.
تُعدّ حادثة وفاة المعتقل أنيس الجردمي، بغض النظر عن تفاصيلها، تذكيرًا مؤلمًا بأهمية المؤسسات الضامنة لحقوق الإنسان. فلو كانت هناك مؤسسات قضائية وأمنية قوية ومستقلة، تلتزم بالإجراءات القانونية الواجبة وتُشرف على ظروف الاحتجاز وتُحقق بشفافية في أي وفاة تحت الحراسة، لكانت الثقة أكبر في نظام قادر على حماية الأفراد حتى لو كانوا متهمين بارتكاب جرائم.
لماذا بناء المؤسسات هو الحل الدائم؟
بناء المؤسسات القوية والراسخة يضمن:
* الاستمرارية: المؤسسة باقية، حتى لو تغير الأشخاص الذين يديرونها. القوانين، الإجراءات، والسياسات هي التي تُسيّر العمل، لا مزاج الأفراد أو أهوائهم. هذا يضمن أن الدولة لا تتوقف عند رحيل قائد، وأن رؤيتها لا تتغير بتغير الوجوه.
* المساءلة والشفافية: المؤسسات تعمل وفق قواعد واضحة، مما يسهل مراقبة أدائها ومحاسبة أي تقصير أو فساد. الشفافية تُصبح جزءًا لا يتجزأ من ثقافة العمل، مما يحد من فرص التجاوز ويُعزز النزاهة.
* الكفاءة والتخصص: المؤسسات تتيح المجال لتوظيف الكفاءات بناءً على الجدارة، وتسمح بتوزيع المهام وفقًا للتخصصات. هذا يُحسن من جودة الخدمات، ويُعزز الفاعلية في إدارة شؤون الدولة.
* حماية حقوق المواطن: عندما تكون المؤسسات القضائية والأمنية مستقلة وفاعلة، فإنها توفر ضمانة حقيقية لحماية حقوق الإنسان، وتطبيق العدالة، وتأمين حريات الأفراد بعيدًا عن أي تدخلات أو ضغوط شخصية.
إن الأشخاص قد يأتون ويذهبون، ولكن المؤسسات القوية، النزيهة، والمستقلة هي وحدها التي تُبنى عليها الأوطان، وتُصان كرامة الإنسان، وتُؤمن مستقبل الأجيال. هي الضمان الوحيد لاستمرارية الدولة واستقرارها وتقدمها، وهي الطريق الأوحد نحو حياة كريمة لجميع أبنائها.