بقلم: م/فضل علي مندوق
في ظل التصعيد المتسارع وغير المسبوق بين إيراني والكيان الصهيوني، لم تعد فرضية المواجهة الشاملة ضرباً من التكهّن الاستراتيجي، بل أضحت مكوّناً رئيساً في تحليلات المراقبين وصنّاع القرار على حد سواء، وهي تحليلات تنظر إلى مستقبل المنطقة لا من باب الاستقرار والتحول، بل من زاوية ما بعد الانهيار، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات على البنية الجيوسياسية لمنظومة الشرق الأوسط.
إن تحقق أحد السيناريوهين المتقابلين – سقوط النظام الإيراني أو انهيار الكيان الصهيوني – من شأنه أن يدشن مرحلة من التحولات العميقة، لا تقتصر على موازين القوى فحسب، بل تمتد إلى الأسس التكوينية للهويات السياسية، ومراكز القرار الإقليمي، والمنظومات الأمنية، وحتى الترتيبات الدولية الحاكمة. ففي حال سقوط طهران، فإننا سنشهد انهيار نموذج الدولة العقائدية ذات الطابع الثيوقراطي، التي شيدت شرعيتها على مفهوم "ولاية الفقيه" باعتباره إطاراً جامعاً بين المرجعية الدينية والسلطة المطلقة. هذا الانهيار، كما يُبرز المؤرخ البريطاني روجر أوين في دراسته حول الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط، لا يُفضي إلى انتقال سلمي للسلطة، بل غالباً ما يولّد فراغاً حاداً تتنازعه قوى محلية غير منضبطة، من مليشيات وأقليات قومية وحركات احتجاجية.
ومن هذا المنطلق، تدخل إيران في حال تفكك الدولة المركزية في تصنيف "الدولة الفاشلة" كما تُعرّفها مؤسسة "فريدوم هاوس"، أي كيان عاجز عن احتكار أدوات العنف المشروع، أو السيطرة على حدوده، أو الحفاظ على وحدته الاجتماعية والسياسية، ما يفتح الباب أمام احتمالات التدخل الخارجي وتفتيت القرار السيادي.
في السياق ذاته، تستحضر نظرية "الواقعية الهجومية" التي طوّرها الأكاديمي الأمريكي جون ميرشايمر فهماً أدق للسلوك الإيراني، الذي لم يكن يوماً محصوراً في منطق الدفاع، بل تحرك في إطار مسعى استراتيجي لبناء محور ردع يمتد من العراق إلى لبنان واليمن. وإن كان هذا المحور يستمد طاقته من مركز ثقله الإيراني، فإن انهياره سيكون بمثابة ضربة قاصمة، تمهّد لفراغ استراتيجي خطير في عموم الإقليم.
وبالنتيجة، سينهار ما يُعرف بـ"توازن التهديد" الذي نظر له كل من جون ميرشايمر وستيفن والت، وهو توازن قائم ليس فقط على توازن القوة، بل على تقاطع المصالح الأيديولوجية والمذهبية بين الفاعلين الإقليميين. انهيار هذا التوازن سيحفّز قوى كالسعودية وتركيا ومصر إلى إعادة هندسة المشهد الأمني، من خلال ترتيبات جديدة قد تكون برعاية دولية أو عبر صيغ إقليمية هجينة، ضمن تنافس أمريكي-صيني-روسي متصاعد.
أما في المقابل، فإن سقوط الكيان الصهيوني في سياق مواجهة وجودية، سيضع مشروعه السياسي برمّته أمام لحظة تأمل حاسمة. فكيان لا يرتكز على جذور ديمغرافية طبيعية أو تواصل جغرافي مع بيئته، بل يعتمد على ركيزتين رئيسيتين: "الشرعية الدولية" و"التحالف مع الغرب"، لن يقوى على البقاء في حال انتكاس أحد هذين المقومين، كما أشار إلى ذلك المفكر إدوارد سعيد في نقده للمرتكزات الأخلاقية والسياسية للصهيونية.
وفي الإطار العسكري الاستراتيجي، فإن انكسار منظومة "الردع المطلق"، والتي تشكلت منذ 1948 واستُكملت بعقيدة "بيغن" التي أطلق عليها: ”المعركة بين الحروب The Campaign Between the Wars"، سيعني انكشاف البنية الداخلية، وتآكل ثقة الشارع بالمؤسسة العسكرية، كما حذّر يوفال ديسكين، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك). وقد يشهد الداخل الإسرائيلي موجات هجرة عكسية وانقسامات حادة بين التيارات الدينية والعلمانية، تنذر بانفجار من داخل التركيبة المجتمعية يسبق أي تهديد خارجي.
ومن زاوية أوسع، فإن التداعيات الغربية لسقوط إسرائيل ستطال جوهر التحالف الأطلسي في الشرق الأوسط، لا سيما في ظل تعقيد المشهد الدولي. إذ قد تضطر الولايات المتحدة – ولأول مرة منذ عقود – إلى التدخل المباشر لحماية الكيان أو إدارة مرحلة ما بعد الانهيار، على غرار ما حدث في العراق. وفي المقابل، ستسعى القوى الأوروبية إلى امتصاص تداعيات الأزمة إنسانياً، بينما ستوظف موسكو وبكين اللحظة لصالح تعميق نفوذهما عبر أدوات ناعمة وأذرع محلية.
سياسياً، فإن السقوط الإسرائيلي سيعيد الزخم إلى القضية الفلسطينية، باعتبارها صراعاً مركزياً وليس ملفاً إنسانياً هامشياً. وستعود إلى الواجهة مقترحات "الدولة الواحدة" أو "الكونفدرالية الثنائية"، بدفع من الشارع العربي والدولي، وضمن سياق يعيد تشكيل هوية الأرض التاريخية. وهنا، سيكون على النخبة الفلسطينية، في الداخل والشتات، أن تجيب عن سؤال وجودي: هل تنجح في توحيد مشروعها الوطني وإعادة بناء سرديتها الجامعة، أم تتعثر مجدداً في متاهات الانقسام السياسي والجهوي؟
في حال كانت الغلبة للكيان الصهيوني نتيجة انهيار إيران، فإن إسرائيل ستتحول إلى قطب إقليمي وحيد يمتلك مقومات التفوّق العسكري والاستخباراتي والتقني، ما سيعزز مشروع "الشرق الأوسط الجديد" عبر توسيع اتفاقات إبراهام وتحويلها إلى تحالفات أمنية دائمة. وسيتحول الملف الإيراني إلى أزمة إنسانية تخضع لسلطة مجلس الأمن والأمم المتحدة، على غرار ما جرى في ليبيا بعد 2011.
أما إذا تحققت الغلبة لإيران وانهارت مرتكزات الكيان الإسرائيلي،، فإن طهران ستدفع باتجاه استنهاض خطاب "الانتصار العقائدي"، وستسعى إلى رسم خارطة إقليمية جديدة تقوم على طرد الوجود الأمريكي وتعزيز المحور الشرقي. غير أن هذا الانتصار قد يكون هشّاً ما لم يُدعَّم بإصلاح داخلي ومصالحة وطنية شاملة، تمنع الانزلاق مجدداً نحو الانهيار الداخلي.
ومن الجدير بالذكر أن كلا السيناريوهين لا ينتميان إلى الحروب التقليدية، بل إلى ما يصطلح عليه في العلاقات الدولية بـ"الحروب الكيانية"، التي لا تدور حول موارد أو حدود، بل حول طبيعة النظام، وهوية الدولة، ومصير الشعوب. كما كتب روبرت كابلان، فإن لحظات الانهيار ليست نهاية، بل افتتاحية لصراعات جديدة تتمحور حول إعادة تفسير التاريخ والسيطرة على مستقبل لم يُرسم بعد.
وفي إطار الرؤية الشاملة لمسار الأحداث، فإن مسؤولية المجتمع الدولي تتجاوز أدوات الاحتواء العسكري، لتطال إعادة بناء الدولة عبر آليات متعددة الأطراف تضع في اعتبارها خصوصية الهويات ومركزية التنمية. فالمعضلة المطروحة لا تتعلق بتوازن الردع فحسب، بل بهندسة نظام إقليمي قادر على إنتاج الاستقرار بدل الفوضى، والتعايش بدل الإقصاء، والتنمية بدل الحرب.
وبالتالي، فإن التفكير الجاد في ما بعد الحرب الإيرانية-الإسرائيلية ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية تمهّد لحقبة جديدة تتجاوز منطق الغلبة نحو التعاقد الإقليمي. وهي لحظة مفصلية ينبغي أن تُكرّس لصياغة مشهد يتجاوز ثنائيات الكراهية والاقتتال، ويؤسس لتوازنات أكثر واقعية وإنسانية، تحفظ حق الشعوب في الحياة بعيداً عن رهانات التفوق الإيديولوجي أو الاستقواء بالخارج.