آخر تحديث :الخميس-26 يونيو 2025-05:37م

الوعي المقدَّم: بين اختراق العقول وتفكيك الأمة

الأحد - 22 يونيو 2025 - الساعة 07:59 م
عبدالناصر محمد العمودي

بقلم: عبدالناصر محمد العمودي
- ارشيف الكاتب



في ظل ما تمر به أمتنا من أزمات متلاحقة، وتقلبات سريعة في المشهدين الإسلامي والعربي، بات من الضروري أن نعيد النظر في أدوات وعينا، وأن نراجع ما يُبثّ إلينا، وكيف ولماذا.

لقد أصبح واضحًا لكل متابع بصير أن هناك غرف عمليات تعمل ليل نهار، تديرها جهات صهيونية مباشرة أو عبر وسطاء، مهمتها زرع الفتنة وتفكيك المجتمعات من الداخل، لا بالقوة العسكرية، بل باختراق الوعي العام وتشويه الإدراك الجماعي.


فمن يراقب منصات التواصل الاجتماعي يلاحظ حجم الاختراق الحاصل: معرفات وهمية، تنسب نفسها إلى دول أو جماعات أو تيارات فكرية، لكن هدفها الحقيقي هو إثارة النعرات الطائفية والقبلية والمذهبية.

تنشر تغريدةً أو منشورًا مليئًا بالتحريض، فتتسابق الردود من حوله — بعضها من حسابات مأجورة، وبعضها من أشخاص حقيقيين غُرِّر بهم — لتضخيم المضمون، وخلق حالة من الجدل والاستقطاب، ثم يتحول الحدث الصغير إلى قضية رأي عام مصطنعة.


وهنا يتجلّى أحد أخطر أساليب الحرب النفسية المعاصرة، التي نجح فيها العدو الصهيوني أيما نجاح، مستغلًا هشاشة الوعي، وقابلية الشعوب للانفعال، وضعف التثبت من المعلومة.

وقد أشار إلى هذا المفهوم المفكر الصهيوني بن غوريون حين قال:

"لن ننتصر على العرب إلا إذا مزقنا وحدتهم الداخلية."

وهذا التمزيق، للأسف، لم يعد مجرد أمنية لعدو، بل أصبح واقعًا يوميًا على صفحات التواصل، وفي الشاشات، والمنابر، وحتى بين العامة.


وقد سبق القرآن الكريم هذا التحذير عندما ربط النصر بوحدة الصف، وربط الهزيمة بالتفرق، فقال الله تعالى:

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]،

فما أكثر ما نازعنا، وما أكثر ما ذهبت ريحنا!


وفي الحديث النبوي، شدد رسول الله ﷺ على خطورة العصبية والولاءات العمياء، فقال:

"دعوها فإنها منتنة"،

حين سمع بشجار بين مهاجري وأنصاري قال فيه كلٌّ: "يا لفلان!" و"يا لفلان!"، فأنكرها النبي ﷺ، وبيّن أن التعصب القبلي والطائفي رائحة نتنة، تُخرجنا من أخلاق الإسلام إلى جاهلية ممجوجة.


وليس العدو وحده من يعبث بعقولنا؛ بل الأخطر من ذلك أن بعض أنظمتنا العربية صارت شريكًا فاعلًا في هذه الفوضى.

فكم من إعلامٍ رسميٍّ يُحرّض شعبه على فئة من المسلمين، لا لشيء إلا لإرضاء تحالفاته أو حماية سلطته؟ وكم من حاكمٍ باع موقفه وولاءه مقابل ضمان كرسيه؟ هؤلاء ليسوا فقط أدوات اختراق خارجي، بل خونة حقيقيون، يسهمون في ضرب الأمة من الداخل.

وقد وصف الله تعالى هذا النموذج في قوله:

﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [النساء: 141]،

وهم اليوم أنفسهم الذين يرقصون على كل طاولة، ويتلونون حسب المصلحة، ويخادعون الشعوب بخطاب مزدوج.


وما زاد الطين بلة، هو الذباب الإلكتروني الذي زرعته بعض أجهزة المخابرات في الدول العربية، لا لمحاربة عدو خارجي، بل لإسكات الشعوب، وتشويه المثقفين، وتزييف النقاش العام.

وقد أشار المفكر الفرنسي جاك إيلول إلى هذا النوع من التلاعب الإعلامي بقوله:

"أخطر أنواع الدعاية هي تلك التي تُمارَس دون أن يشعر بها المتلقي."

وهذا تمامًا ما يحصل، حين يُدار وعي الجماهير بخوارزميات موجهة، وصور مشوشة، وعناوين براقة تخفي وراءها أجندات خطيرة.


إن أخطر ما نواجهه ليس فقط الاحتلال العسكري، بل الاحتلال الثقافي والفكري؛ فقد سقطت بعض العقول في فخ الكراهية، وبعض الأقلام في مستنقع التبعية، وبعض الشعوب في دوامة التراشق والتخوين.

حتى صرنا نرى من "يتفاخر" بسبّ دولة إسلامية أخرى، أو يظن أن انتقاص الآخر انتصار له!


وقد بيّن النبي ﷺ أن الأمة جسد واحد، فقال:

"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم].

فإذا كنّا نرى في الأمة خصومًا بدل أن نراهم إخوة، وننجر خلف دعايات التفرقة، فمتى سنقوم من سباتنا؟


قال المفكر مالك بن نبي:

"الاستعمار لا يدخل بلدًا إلا بعد أن يصنع فيه قابلية للاستعمار."

ونحن اليوم — للأسف — نرى هذه القابلية تتجلى في قابليتنا للفتنة، للفرقة، للكراهية، ولقبول التوجيه الخارجي.


*نداء إلى العقلاء*


إن واجب المرحلة يحتم على كل صاحب وعي، وكل فرد غيور على دينه وأمته، أن يقف سدًا أمام هذا الانهيار الأخلاقي والفكري.

لسنا بحاجة لمعارك إلكترونية، بل إلى معركة وعي حقيقية، تتأسس على فهم عميق لقول الله تعالى:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]،

فالأصل هو الأخوة، لا الخصومة.

وإن أول ما ينبغي فعله:


1. التثبت من كل معلومة أو محتوى قبل نشره أو التعليق عليه.

2. الإبلاغ عن الحسابات المشبوهة، بدل التفاعل معها.

3. رفض كل خطاب يتعرض للشعوب والدول الإسلامية بالإساءة أو التخوين.

4. تعزيز خطاب الوحدة، والنقد البناء، والوعي الجمعي.


فلنغلق أبواب الفتنة، ونكسر أدواتها، ولنتذكر أن الأمة التي تختلف ولا تتنازع، وتنتقد ولا تتفكك، هي أمة حية، لا يمكن أن تُهزم.


قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]،

فالتغيير يبدأ من داخلنا، من وعينا، من كلماتنا، من صفحاتنا، من نظرتنا لبعضنا البعض.

فما يحدث ليس صدفة. إنه مشروع تفكيك كبير، بدأته الصهيونية، وتواطأ فيه المستبد، وشاركت فيه أيادٍ مأجورة من بني جلدتنا.

فلا تكن شريكًا في الهدم بصمتك، ولا أداة في الفتنة بتفاعلك، ولا جسرًا يعبر منه العدو بجهلك.


بل كن ممن قال الله فيهم:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].


اللهم احفظ الامة وازح الغمة فلا حول ولا قوة الا بك.


e.g.PMA ABDULNASR ALAMOUDI