بقلم: م/فضل علي مندوق
بعد اثني عشر يومًا من المواجهات العسكرية المباشرة وغير المسبوقة بين إيران والكيان الصهيوني، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وقفٍ لإطلاق النار بين الطرفين، في خطاب عاجل اعتُبر خطوة مفاجئة في ظل التوتر المتصاعد. جاء الإعلان الأمريكي في لحظة حرجة كانت فيها المنطقة على شفا انفجار شامل قد يتجاوز الحدود التقليدية إلى مواجهة إقليمية كبرى. وبعد ساعات قليلة من التصريح الأمريكي، خرج رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ليؤكد التزام الكيان الفوري بالهدنة، دون أن يصدر أي إعلان من الجانب الإيراني، سوى تصريحات غير رسمية تشير إلى "نهاية المهمة الدفاعية". ورغم إشارات الترحيب الدولية الحذرة، رأى العديد من المحللين السياسيين في العالمين العربي والغربي أن هذه الخطوة ما هي إلا هدنة تكتيكية مؤقتة، وليست تحولًا استراتيجيًا دائمًا.
وقف إطلاق النار لم يكن ثمرة اتفاق ثنائي مباشر بين إيران والكيان الصهيوني، ولم يصدر بشأنه أي بيان مشترك أو وثيقة موقعة، بل جاء كاستجابة ظرفية لتحركات أمريكية كثيفة وراء الكواليس، مدفوعة بوساطة قطرية فاعلة، وخشية حقيقية من انفلات الوضع العسكري إلى حرب إقليمية مفتوحة. الكيان الصهيوني، عبر نتنياهو، أعلن التزامه الكامل بمبادرة ترامب، وعدّها فرصة لإعادة التقييم العسكري، بينما ربطت إيران موقفها بوقف العدوان الصهيوني، واعتبرت ردّها الصاروخي على الضربات الأخيرة كافياً، دون إعلان رسمي عن التهدئة. بهذا، يُعد ما جرى تفاهمًا ضمنيًا هشًا، يفتقر إلى الإطار القانوني وآلية المراقبة.
رغم غياب الوثائق الرسمية، تشير قراءات المحللين السياسيين إلى تفاهمات غير مكتوبة جرت بوساطة قطرية تحت رعاية أمريكية، تضمنت التزامًا متبادلًا بوقف العمليات العسكرية المباشرة، سواء من داخل أراضي إيران أو الكيان الصهيوني، بما يشمل الامتناع عن توجيه ضربات جوية أو إطلاق صواريخ بعيدة المدى. كما وردت إشارات إلى ضبط سلوك حلفاء إيران الإقليميين، مقابل التزام أمريكي بتخفيف الدعم العلني للعمليات الصهيونية داخل العمق الإيراني. وأُثيرت فكرة فتح قناة خلفية غير رسمية للتواصل الأمني عبر الدوحة أو سويسرا، تهدف لاحتواء أي تصعيد مفاجئ أو منع سوء تقدير عسكري.
بالرغم من هذه التهدئة المؤقتة في سياق النزاع الإيراني-الصهيوني، يبقى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي خارج دائرة الحلول، مستمرًا في إحداث توترات متجددة، حيث تستمر ممارسات الاحتلال والاستيطان التي تزيد من معاناة الفلسطينيين وتصعب فرص السلام في المنطقة. لا تزال القضية الفلسطينية تمثل العامل الأساسي في حالة عدم الاستقرار الإقليمي، حيث أن هذه الهدنة لا تعالج جوهر الصراع الفلسطيني، ولا تؤدي إلى خفض التصعيد في الأراضي المحتلة، مما يعكس هشاشة الهدنة وتأجيلًا لمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه السلام في الشرق الأوسط.
بالنسبة لإيران، جاءت التهدئة نتيجة حسابات استراتيجية دقيقة، إذ رأت في الرد العسكري رسالة ردع كافية وأثبتت قدرة طهران على الوصول إلى العمق الصهيوني. واعتبرتها خطوة محسوبة تحافظ على مكاسب الردع دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة، مع إشارات ضمنية لإمكانية العودة إلى مسار التفاوض النووي شرط توقف التصعيد. أما الكيان الصهيوني، فاستغل وقف إطلاق النار لامتصاص الضغط الداخلي، لا سيما في ظل الانتقادات الحادة لفشل منظومته الدفاعية في صد الهجمات، إضافة إلى حاجة المؤسسة العسكرية لإعادة تقييم الأضرار وترتيب الأولويات بعيدًا عن حرب استنزاف. أعلن نتنياهو التهدئة كمحاولة للسيطرة على إيقاع الأزمة واستعادة زمام المبادرة أمام الرأي العام المحلي والدولي. الولايات المتحدة، من جانبها، حرصت على تجنب تفجير المشهد في توقيت دولي حساس، حيث تعيش أزمات متعددة في أوكرانيا وآسيا، وحملت تدخلاتها البعد الاستعراضي، لكنها عكست إدراكًا لخطورة التصعيد ورغبة في توظيف التهدئة لفتح نافذة تفاهمات أوسع في الملف النووي الإيراني.
ومع ذلك، يواجه وقف إطلاق النار تحديات هيكلية كبيرة. أبرزها غياب إطار قانوني أو جهة ضامنة، ما يجعله هشًا وعرضة للانهيار مع أول خرق أو سوء فهم ميداني. كما أن العلاقة بين إيران والكيان الصهيوني تقوم على خصومة عميقة ذات أبعاد أيديولوجية وعسكرية، تجعل أي تهدئة معرضة للانفجار في أي لحظة. كذلك يشكل وجود أطراف إقليمية غير منضبطة - وبعض التيارات الصهيونية المتشددة - خطرًا دائمًا، حيث إن أي تحرك عسكري من طرف ثالث قد يؤدي إلى نسف الهدنة برمتها. يضاف إلى ذلك التوترات الداخلية في طهران وتل أبيب التي قد تدفع بعض التيارات السياسية إلى التصعيد لتحسين مواقعها.
بناء على هذه المعطيات، يمكن القول إن وقف إطلاق النار خطوة ضرورية لكنها ليست تحولًا استراتيجيًا في الصراع. هو أقرب إلى هدنة اضطرارية فرضتها موازين القوى ومخاوف التصعيد. ومع ذلك، قد تفتح هذه الهدنة نافذة دبلوماسية إذا أحسن الوسطاء استغلالها وربطوها بمسارات تفاوضية أوسع تشمل الملف النووي والتوازنات الأمنية في الخليج وشرق المتوسط. ويظل الملف الفلسطيني حجر الزاوية في أي تسوية إقليمية شاملة، إذ لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي دون معالجة عادلة وجذرية لهذا الصراع الممتد. أما في حال غياب آليات رقابة وضمانات دولية، فإن فرص انهيارها تبقى مرتفعة، إذ إن غياب الثقة وتعدد ساحات الاشتباك واستمرار الخطاب العدائي عوامل تجعل من العودة إلى التصعيد أمرًا محتملًا.