في قلبِ الشرقِ الأوسطِ، حيثُ تتراقصُ أشباحُ الصراعِ على إيقاعِ التوترِ الدائمِ، شهدنا فصولًا مُتسارعةً من مواجهةٍ غيرِ مسبوقةٍ بينَ قوتينِ إقليميتينِ لطالما خاضتا حربَ ظلالٍ طويلة. بدأتْ الشرارةُ من إسرائيلَ، بعدوانٍ سافرٍ استهدفَ قادةً وعلماءَ إيرانيينَ على أرضٍ ليستْ ساحةَ معركةٍ تقليدية، مُشعلةً بذلكَ نيرانَ الغضبِ والانتقام. تبعَ ذلكَ ردٌّ إيرانيٌّ لم يكنْ متوقعًا في حجمهِ ونوعيتهِ، حيثُ انطلقتْ صواريخُ الموتِ لتطالَ العمقَ الإسرائيليَّ، مُحدثةً دمارًا في العمرانِ والبنى التحتيةِ، ومُخلفةً وراءها قلقًا غيرَ مسبوقٍ في نفوسِ المواطنينَ.
وبينما كانتْ المنطقةُ تُحبسُ أنفاسها، مُترقبةً تصعيدًا لا تُحمدُ عقباهُ، جاءَ الإعلانُ عن وقفٍ فوريٍّ لإطلاقِ النارِ، كصاعقةٍ في سماءٍ ملبدةٍ بالغيوم. هذا التوقفُ المفاجئُ، الذي لم تُعلنْ بنودهُ بوضوحٍ، يُثيرُ تساؤلاتٍ عميقةً حولَ أبعادهِ ودلالاتهِ، ويُلقي بظلالٍ من الغموضِ على مستقبلِ الصراعِ في المنطقة.
الستارُ الكثيفُ على بنودِ الاتفاقِ: دلالاتُ الصمتِ
إنَّ غيابَ الشفافيةِ حولَ بنودِ الاتفاقِ يُعدُّ الدلالةَ الأولى والأكثرَ أهمية. فهل جاءَ هذا الوقفُ نتيجةَ وساطاتٍ خلفَ الكواليسِ، فرضتْ شروطًا حساسةً لا يُمكنُ الإفصاحُ عنها علنًا؟ أم أنهُ اتفاقٌ ضمنيٌّ لحفظِ ماءِ الوجهِ لكلا الطرفينِ بعدَ أن استعرضا عضلاتهما؟ إنَّ الصمتَ الرسميَّ يُشيرُ إلى أنَّ هناكَ تنازلاتٍ أو تفاهماتٍ قد تمتْ بعيدًا عن الأضواءِ، ربما تتعلقُ بحدودِ الردعِ المتبادلِ، أو بمساراتِ البرنامجِ النوويِّ الإيرانيِّ، أو حتى بآلياتِ التعاملِ معَ الوكلاءِ الإقليميين.
لماذا توقفتْ الحربُ في أوجِ استعراضِ القوة؟
هذا هو السؤالُ الجوهريُّ الذي يُحيرُ المراقبين. هل جاءَ التوقفُ نتيجةَ:
1. إدراكِ الثمنِ الباهظِ وتوازنِ الرعبِ: ربما أدركَ كلا الطرفينِ أنَّ الاستمرارَ في التصعيدِ المباشرِ سيُفضي إلى استنزافٍ لا طائلَ منهُ، وتدميرٍ مُتبادلٍ يُهددُ استقرارهما الداخليَّ. لقد اختبرَ كلُّ طرفٍ قوةَ الآخرِ، وأدركَ أنَّ المواجهةَ الشاملةَ ستكونُ كارثيةً على الجميع. إنها لحظةُ "توازنِ رعبٍ" جديدةٍ، حيثُ تُصبحُ القدرةُ على الإيلامِ المتبادلِ عاملَ ردعٍ يُجبرُ الأطرافَ على التراجع.
2. تحقيقِ أهدافٍ محدودةٍ: قد يكونُ كلُّ طرفٍ قد حققَ أهدافًا استراتيجيةً محدودةً من هذهِ المواجهة. إسرائيلُ ربما أرادتْ أن تُرسلَ رسالةً بأنها قادرةٌ على الوصولِ إلى عمقِ إيرانَ، وأنها لن تتسامحَ معَ أيِّ تهديدٍ لأمنها. وإيرانُ ربما أرادتْ أن تُثبتَ قدرتها على الردِّ المباشرِ على الأراضي الإسرائيليةِ، مُكسرةً بذلكَ قواعدَ الاشتباكِ القديمةِ التي كانتْ تُقيدُ ردودها.
3. الضغوطِ الدوليةِ الهائلةِ: لا يُمكنُ إغفالُ دورِ القوى الكبرى، خاصةً الولاياتِ المتحدةِ، في الضغطِ على الطرفينِ لوقفِ التصعيد. فخشيةُ انفجارٍ إقليميٍّ واسعٍ يُهددُ أسواقَ الطاقةِ العالميةَ ويُزعزعُ الاستقرارَ الدوليَّ، دفعتْ هذهِ القوى إلى ممارسةِ ضغوطٍ دبلوماسيةٍ وسياسيةٍ هائلةٍ خلفَ الكواليسِ، ربما تضمنتْ وعودًا أو تهديداتٍ غيرَ مُعلنة.
ما بعدَ الهدنةِ: هل يعودُ سباقُ التسليحِ وحربُ الظلال؟
إنَّ وقفَ إطلاقِ النارِ هذا ليسَ نهايةَ المطافِ، بل هو فصلٌ مؤقتٌ في كتابِ الصراعِ الطويل. فالدولتانِ المتصارعتانِ، اللتانِ استعرضتا سلاحهما الفتاكَ في وجهِ الآخرِ، ستعودانِ حتمًا لحشدِ قواتهما والتسابقِ المحمومِ بالتسليحِ مرةً أخرى. بل إنَّ هذهِ المواجهةَ المباشرةَ قد تُعطي دروسًا مستفادةً لكلا الطرفينِ حولَ نقاطِ القوةِ والضعفِ، مما سيُعززُ من وتيرةِ تطويرِ الأسلحةِ والقدراتِ العسكرية.
إنَّ الأبعادَ والدلالاتِ من وقفِ إطلاقِ النارِ المفاجئِ تُشيرُ إلى:
تأكيدُ توازنِ الردعِ: لقد أثبتَ كلُّ طرفٍ قدرتهُ على إيلامِ الآخرِ، مما قد يُرسخُ معادلةَ ردعٍ جديدةٍ تُقللُ من احتماليةِ المواجهةِ المباشرةِ واسعةِ النطاقِ في المدى القريب.
عودةٌ إلى حربِ الظلالِ: من المرجحِ أن يعودَ الصراعُ إلى ساحاتِ الوكلاءِ والعملياتِ السريةِ والهجماتِ السيبرانيةِ، لكنَّها ستكونُ أكثرَ جرأةً وخطورةً، معَ احتماليةِ ارتفاعِ وتيرةِ الضرباتِ المتبادلةِ غيرِ المباشرة.
تأثيرٌ على البرنامجِ النوويِّ: قد تُسرعُ إيرانُ من وتيرةِ برنامجها النوويِّ كنوعٍ من الردعِ المستقبليِّ، أو قد تُفرضُ عليها قيودٌ جديدةٌ ضمنَ أيِّ تفاهماتٍ سرية.
إعادةُ تموضعٍ إقليميٍّ: ستُعيدُ دولُ المنطقةِ وحلفاءُ الطرفينِ تقييمَ مواقفهمَ وتحالفاتهمَ في ضوءِ هذهِ المواجهةِ المباشرةِ ونتائجها.
في الختامِ، إنَّ وقفَ إطلاقِ النارِ بينَ إسرائيلَ وإيرانَ هو هدنةٌ هشةٌ في قلبِ عاصفةٍ لم تهدأْ بعد. إنهُ يُشبه
ُ لحظةَ صمتٍ في مسرحيةٍ دراميةٍ، تُخفي وراءها فصولًا قادمةً من التوترِ والصراعِ، ما لم تُبذلْ جهودٌ دوليةٌ حقيقيةٌ لمعالجةِ جذورِ الأزمةِ، وإرساءِ سلامٍ عادلٍ ودائمٍ يُنهي رقصةَ الموتِ على أرضٍ تُعاني من ويلاتِ الحروبِ منذُ عقود.
علوي سلمان