آخر تحديث :الخميس-04 سبتمبر 2025-01:22ص

اليمن ... وطن تتقاذفه المصالح وشرعية خذلت شعبها

السبت - 28 يونيو 2025 - الساعة 08:32 م
أمة الرحمن العفوري

بقلم: أمة الرحمن العفوري
- ارشيف الكاتب


عشر سنوات عجاف واليمن لا يزال يرزح تحت وطأة حربٍ عبثية تحوّلت من صراع على السلطة إلى حالة من التآكل الممنهج للسيادة الوطنية، والثروة، والانتماء الوطني، بينما انتهت حروبٌ في بلدان مجاورة أو هدأت، استطاع قادتها توظيف أدوات السياسة والدبلوماسية من أجل مصالحها، أما اليمن فقد ظل عالقاً بين أرجوحة التصعيد والتهدئة في متاهة مظلمة تحفها الأزمات من كل جانب ولا أمل يلوح في الأفق.

أما الوضع السياسي فتتنازعه ثلاث حكومات، وثمانية رؤوساء ، وعشرات الولاءات دون مشروع وطني جامع أو حتى نية جادة للخروج من هذا النفق المظلم.


وفي الوقت الذي تبني فيه الدول تحالفاتها استناداً إلى مصالحها الاستراتيجية، دون أن تفرّط في وجودها أو سيادتها، نرى القوى اليمنية المختلفة قد استسهلت التفريط بكل شيء: الأرض، القرار، الموارد، والكرامة الوطنية، كل ذلك تحت شعارات مزيفة لم تعد تنطلي على تُقنع حتى مطلقيها.


خذ إيران على سبيل المثال، دولة ما برحت لعقود تزعم أنها "حاملة لواء فلسطين"، وأنها تقف في وجه "الاستكبار العالمي" دفاعاً عن القدس، ومع ذلك لم تربط موضوع إنهاء حربها الأخيرة مع إسرائيل بوقف الحرب في غزة، إذ أنها لم تشرط لوقف هجماتها الصاروخية على إسرائيل بإيقاف الحرب على غزة لأنها مصلحتها لا تقتضي ذلك، بل كان همها رد الاعتبار لنفسها جراء العدوان الإسرائيلي المباغت لها والذي كلفها ثمنا الكثير من قياداتها العسكرية والسياسية وبنيتها التحتية ومنظوماتها الدفاعية..

إيران التي تملأ الفضاء بخطابات رنانة وتتغنى بالمقاومة، بل وتدعي بأنها محور ارتكاز كل مشروع مقاوم في المنطقة، لم تُطلق رصاصة واحدة من أجل فلسطين لكنها أحرقت الأخضر واليابس في سوريا والعراق واليمن ولبنان حين اقتضت مصلحتها ذلك، ودعمها للحوثيين في اليمن ليس حباً في اليمن بل لضمان موطئ قدم في خاصرة الجزيرة والخليج، وعندما تجد أن بقاءها في هذا الموقع أو ذاك أصبح مكلفاً، ستغادره دون أن تدير رأسها إلى الخلف.


هذه هي السياسة حين تُمارس من منطق أنه لا تحالفات دائمة ولا عواطف ولا عقائد في سياسات الدول، وكل شيء يُقاس بميزان المصلحة الصرفة ، أما حين تُمارس السياسة من موقع الضعف كما هو حال معظم الساسة في اليمن فإنها تتحول إلى ارتهان كامل وغياب تام لأي رؤية وطنية ولا سلطة سيادية.


وفي خضم هذا الانهيار التام لمنظومة الحكم يتمسّك الشعب اليمني بما تبقّى من رمزية للدولة: "الشرعية" – لا بوصفها حكومة أو أشخاصاً، بل بوصفها المبدأ الأخير والملاذ القسري الذي يربط اليمنيين بفكرة الدولة ذات السيادة والحدود والوحدة والهوية الجامعة ، الشرعية بالنسبة لليمنيين لم تكن خياراً سياسياً بقدر ما كانت القشة الأخيرة التي تشبّث بها المواطن في وجه الانقسام المليشاوي والولاءات المتعددة التى أفرزتها التدخلات الخارجية .


لكن الشرعية للأسف لم تكن على قدر المسؤولية والتطلعات التي كان يحلم بها الشعب اليمني، فقد خذلت الوطن والمواطن وتحوّلت من مشروع إنقاذ وطني إلى كيان إداري رمزي مترهل مترحل بين العواصم لم يجد له مقرا أو مستقرا داخل الوطن، ويقتصر دوره على إصدار البيانات وتوقيع البروتوكولات لتنظيم الأزمات والجرعات فقط، أما القرارات فهي حبر على ورق في كثير من الأحيان ولا يُنفذ منها إلا ماكان في صالح الوصيّ المؤتمَن أو الشريك المرتهَن، وأما معركة التحرير وإعادة الشرعية الدستورية المسلوبة فلم يعد هدفا يُذكر بل صار خبرا يؤثر، لأن معركة السيادة هي الأولى أن تستعاد، ويجب أن تدار بذكاء وحِنكة ومسؤولية، لكن للأسف لم نجد في السلطة الحاكمة التي منحناها ثقتنا الأهلية الكاملة لإدارة المرحلة باقتدار، ولم تحافظ على ثقة الداخل، ولا استطاعت أن تنتزع احترام الخارج.


والنتيجة؟ عملة منهارة، اقتصاد مشلول، وضع إنساني يُصنّف الأسوأ عالمياً، ومواطن يمني بات غريباً في وطنه، لا يجد ما يسد رمقه ولا من يدافع عن كرامته، لقد أصبحت "الشرعية" عنواناً سياسياً بلا مضمون، ورمزاً بلا سلطة، تتجاذبها أطراف لا يعنيها من اليمن سوى ما تجنيه من مصالح آنية.


اليمن اليوم ليس بحاجة إلى حكومة جديدة ولا إلى تحالفات إضافية بقدر حاجته إلى مراجعة شجاعة وعميقة للذات، وتغيير حقيقي وجذري، نحتاج إلى تعريف جديد للسياسة لا كأداة للمناورة والمراوغة والتكسُّب غير المشروع وإنما كوسيلة لإعادة بناء الدولة، نحتاج إلى قيادات تعي معنى الوطنية وتدرك قيمة المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقها، وتفهم بأن الشرعية هي شرعية الشعب فهو مصدرها الأول ولا تُستمد من الخارج بل من الداخل، من ثقة الناس، ومن قدرتها على حماية السيادة، وصيانة الكرامة، وتحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة.


أما أولئك الذين لا يملكون حتى مشاعر الغيرة على وطنهم، فلا يمكن وصفهم بالسياسيين، لأن السياسة في جوهرها فعلٌ أخلاقي قبل أن تكون أداة إدارة، والسياسي الذي لا يشعر بالخجل من فشله في إدارة منصبه، هو مجرد موظف لخدمة أجندات أخرى تضر بالمصلحة الوطنية ويكون عبئا على الوطن والمواطن.


لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح: اليمن ليس ساحة لتجريب المشاريع، ولا مختبراً للطموحات المؤجلة. اليمن وطن، له شعب أصيل، وله تاريخ عريق، ويستحق أن يُعامل كدولة ذات سيادة، لا كملف على طاولة مفاوضات.