جميعنا كنا طلاباً يوماً ما، وعشنا تلك المرحلة التي طبعت ذاكرتنا بصور لا تُمحى، أصدقاء الدراسة، ضحكاتنا في ساحات المدرسة، لحظاتنا داخل قاعات الجامعة، ومع كل ذلك تبقى الكلمات التي قالها معلمونا هي الأثر الأعمق في نفوسنا، كلمة قالها معلم قد صنعت شخصيتنا، وعبارة قالها آخر ربما غيّرت مسار حياتنا، لا عجب أن هناك معلمين ما زلنا نحمل لهم الود والامتنان حتى بعد مرور عشرات السنين، نتذكر ملامحهم، أصواتهم، ابتساماتهم، ودعمهم الذي جعلنا نؤمن بأنفسنا وبقدراتنا، وهناك أيضاً معلمون علقوا في الذاكرة بصورة مغايرة، المعلم القاسي، المتعجرف، المضطرب نفسياً، من جعل التعليم عبئاً والمادة جحيماً.. ثم تنتهي مراحلنا الدراسية، ولا يبقى سوى الأثر، أثر المعلم الجيد يبقى مصدر فخر كلما ذُكر اسمه، بينما المعلم السيئ لا يترك سوى ذكرى باهتة وانطباع سلبي، بكلا الحالتين الأثر لا ينمحي.
واليوم عندما أصبحت معلماً، تساءلت: ما الأثر الذي أريد أن أتركه لدى طلابي؟ وما هي رسالتي؟
ثم أجبت على تساؤلي: رسالتي أن أكون المعلم الذي يزرع الثقة قبل الفكرة، وأن أكون صديقاً وداعماً، قبل أن أكون موجهاً وناصحاً، أن أعلم طلابي كيف يفكرون، يحللون ويبتكرون، لا ماذا يحفظون، كيف يكون لهم وجهة نظر وقرار ورأي خاص بهم لا بغيرهم، أن يدركوا أن قيمة العلم ليست في درجات نهاية العام، بل في أثر المعرفة على تفكيرهم وسيكولوجيتاهم، أن أنمي مهاراتهم وقدراتهم في التحليل ،الاستخلاص ،الاستنتاج، التفكير والنقد، وأجعل شهاداتهم ثمرة لهذا البناء، لا غاية بحد ذاتها.
قررت أن أبني علاقتي بطلابي على الحب والاحترام والتقدير، لا على الخوف، أو الترهيب، أو رفع الصوت، أو الإهانة، أدركت أن خلف كل طالب " قصة لا نعرف تفاصيلها " ، بعضهم يحمل أوجاعاً خفية، وبعضهم يعيش صراعاً لا يُرى، ولذلك، كان لزاماً عليّ أن أكون لهم المعلم والإنسان معاً، فالإنسانية أسمى وأرقى قيمة عرفها البشر.
بدأت العام الدراسي بهذا اليقين - رغم تحذيرات الإدارة -: "إحذر!! هؤلاء طلاب مشاغبون ومتمردون، فلا تكن صديقاً لهم، بل كن قاسياً لتحكم السيطرة على الفصل"، لكنني اخترت طريقاً آخر: طريق الاحترام، رفع المعنويات، احتواء الظروف النفسية، ترسيخ القيم، التربية قبل التعليم، والحوار بدل الصراخ، خاصة في ظل ظروف الصراعات السياسية الحالية التي يمر بها الوطن، وأثرها على ضياع مستقبل الاجيال.
وحتى أني رأيت في الطلاب الذي قيل لي انهم مشاغبون بحاجة للاحتواء والدعم، لا للقسوة والنبذ، فلا يوجد طالب فاشل، بل يوجد معلم فاشل لم ينجح في اكتشاف مفتاح نجاحه، فالمعلم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة ، بل مُربي، وباني، وصانع أثر خالد في وجدان الاجيال.
وها انا وفي لحظة كتابتي لهذا المقال اشعر بمنتهى الفخر بطلابي، فعلى قدر ما كنت معلماً لهم فقد تعلمت منهم ايضاً الكثير، وجدت فيهم الذكاء ،الصبر ،الكفاح ، الاجتهاد والطموح رغم كل الظروف الصعبة المحاطة بكل شخص، اتمنى من قلبي لهم التوفيق والنجاح الدائم، وأن يذكرونني دائماً بأثر طيب.
إن التعليم رسالة خالدة، والمعلم قيمة مُلهمة للأجيال، واستشراف مضيء للمستقبل – برغم كل الظروف والصعوبات المحيطة برسالة التعليم النبيلة- فأتمنى أن يدرك كل معلم ومعلمة أن مهنته ليست وظيفة، بل أثر ورسالة وذكرى ستعيش طويلاً في الذاكرة بعد أن يغادر طلاب الحياة قاعات الجامعات وفصول المدارس، لتبدأ بعدها رحلة اخرى من الكفاح في سفر الحياة بتجلياتها ومراياها المختلفة، فليحرص كل معلم أن يترك اثراً يقتدى به، وصدىً طيباً في ذاكرة طلابه مدى الحياة.