لطالما مثّل اليمن موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية على الخارطة الدولية والإقليمية، إذ يتحكم بمضيق باب المندب، أحد أهم شرايين الملاحة العالمية، فضلاً عن كونه يمتلك شريطاً ساحلياً طويلاً وموانئ قادرة على التأثير في التجارة الدولية.
هذه الأهمية الجيوسياسية جعلت اليمن مسرحاً لصراع معقّد تتداخل فيه مصالح محلية، وإقليمية، ودولية. ومن بين أبرز الاستراتيجيات التي يمكن رصدها في إدارة هذا الصراع، ما يُعرف بـ توازن الضعف، أي إبقاء جميع الأطراف المحلية في حالة ضعف نسبي وانقسام دائم، بحيث لا يتمكن أي طرف من السيطرة الكاملة، فتظل البلاد رهينة الحاجة للدعم الخارجي، وتبقى القوى الكبرى أو الدول الإقليمية هي صاحبة الكلمة الفصل في موازين القوى.
وتوازن الضعف هو سياسة مقصودة تتبعها بعض القوى لتحقيق أهدافها. يقوم هذا التوازن على عدّة أركان أساسية: هي
1- تشتيت القوى المحلية: منع تشكّل سلطة قوية قادرة على فرض إرادتها على كامل التراب الوطني.
2- إطالة أمد الصراع: تحويل الصراع من حسم عسكري أو سياسي سريع إلى حالة استنزاف مستمر.
3- إبقاء الأطراف المتصارعة في حاجة إلى الخارج: بحيث يعتمد كل طرف محلي على داعم خارجي سياسي أو مالي أو عسكري.
4- إضعاف الروابط الوطنية الجامعة: بإذكاء الهويات الفرعية (مناطقية، مذهبية، قبلية) على حساب الهوية الوطنية...
وهناك أسباب خارجية تدفع نحو توازن الضعف في الوطن منها...
1. المصالح الجيوسياسية الدولية
باب المندب: الدول الكبرى معنية بعدم تمكين قوة محلية أو إقليمية من السيطرة المطلقة على الممر المائي الحيوي، لأن ذلك يمنحها أوراق ضغط استراتيجية على التجارة العالمية.
التنافس الدولي والإقليمي: القوى الكبرى تستخدم الصراع في اليمن كورقة ضمن صراعات أوسع (مثلاً التنافس الأمريكي - الصيني، أو التوتر الأمريكي - الإيراني).
2. مصالح الدول المجاورة
بعض الدول المجاورة لليمن ترى في وحدة اليمن واستقراره تهديداً محتملاً لمصالحها الاقتصادية أو لأمنها القومي، خصوصاً في ملف الموانئ البحرية أو النفوذ الإقليمي.
هناك من يرى أن وجود دولة يمنية قوية قد يخلق توازناً إقليمياً جديداً أو يُعيد إحياء مشاريع تاريخية (مثل مشاريع الوحدة أو النفوذ اليمني على الموانئ والمناطق المجاورة).
وهناك أسباب داخلية لاستمرار توازن الضعف منها:
1. أطراف محلية مستفيدة من الفوضى
هناك أطراف يمنية باتت مصالحها مرتبطة ببقاء الوضع كما هو:
شبكات تهريب السلاح والوقود والممنوعات.
القيادات العسكرية والقبلية المستفيدة من اقتصاد الحرب.
قوى سياسية ترى في استمرار الفوضى وسيلة للهروب من المحاسبة على الفساد أو على جرائم الحرب.
2. الاقتصاد السياسي للحرب فالحرب في اليمن خلقت اقتصاداً موازياً قائماً على الجبايات، والضرائب غير الرسمية، والتحويلات المالية المشبوهة، ما يجعل إنهاء الحرب تهديداً مباشراً لمصالح هذه الشبكات.
ونتائج توازن الضعف على اليمن أدى ذلك إلى انهيار المؤسسات، وتعدد الحكومات والسلطات على الأرض.
وتفاقم الوضع الإنساني: اليمن يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يُستخدم الحصار، والمساعدات الإنسانية كسلاح سياسي.
فالاقتصاد في حالة موت سريري: انهيار العملة، وانعدام الرواتب في معظم المناطق، وانهيار البنى التحتية وتشرذم اجتماعي خطير: الانقسامات المجتمعية تزداد عمقاً، ما يُهدد بإطالة أمد الصراع حتى لو توقفت الحرب عسكرياً.
وللخروج توازن الضعف يتطلب توافر عوامل عدّة:
رغبة داخلية حقيقية لإنهاء الحرب من جميع الأطراف اليمنية دون استثناء.
دور إقليمي ودولي نزيه يهدف فعلاً إلى بناء دولة يمنية مستقلة، وليس تحقيق مصالح خاصة.
إعادة بناء الاقتصاد خارج اقتصاد الحرب، عبر استثمار الثروات الطبيعية والموقع الاستراتيجي لليمن لصالح شعبه.
ولكن كل ذلك يصطدم بعقبات هائلة، إذ ما تزال مصالح الفاعلين المحليين والخارجيين تتقاطع على إبقاء اليمن في حالة «لا حرب ولا سلم»، وهي البيئة المثلى لاستمرار توازن الضعف.
وخلاصة الحديث توازن الضعف في اليمن ليس مجرد وصف لحالة ضعف الأطراف، بل هو استراتيجية مدروسة لإبقاء البلد مقسّماً، واستنزافه طويلاً، لضمان مصالح قوى خارجية ومحلية، إن كسره يتطلب إرادة يمنية موحّدة أولاً، وضغطاً دولياً وإقليمياً صادقاً ثانياً، وإلا فستظل اليمن عالقة في دورة الصراع، ويظل الشعب اليمني يدفع الثمن الباهظ وحده..
والله من وراء القصد.