في قلب عدن، حاضرة البحر والتاريخ، تعيش هذه المدينة أسوأ لحظاتها. انطفاء شبه دائم للكهرباء، شح في المياه، انهيار اقتصادي يلتهم ما تبقى من رواتب الموظفين، وتفشٍ للأوبئة والعنف والجوع.
كبار السن يودعون حياتهم اختناقًا في ليل بلا هواء المراوح، والمرضى من ذوي الأمراض المزمنة يسقطون في مستشفيات عدن نتيجة تدهور الحالة الصحية الناتج عن انقطاع الكهرباء لساعات طويلة. تتكدس أعباء الحياة على أكتاف العائلات حتى تكاد تنوء. هذه الوقائع ليست أخبارًا عابرة، بل ناقوس خطر يدق من شريان قلب المدينة ليعلن أن الحق في الحياة الكريمة صار مهددًا في ظل غياب الإرادة السياسية العليا منذ سنوات.
ومن وسط هذا الخراب، برزت من نافذة البحر أمل تحمله نساء عدن كطوق نجاة. أمهات، عاملات، ربات بيوت، شابات من مختلف المشارب السياسية والمدنية، خرجن إلى الساحات في حراك سلمي مجرد من الولاء السياسي أو الأيديولوجي، يرفعن شعارًا واحدًا لا لبس فيه: "كرامتنا وإنسانيتنا أولًا".
بأصواتهن التي تتردد في الشارع كل سبت من أيام الأسبوع، يعود الأمل أكثر من الهتاف، وهن يطالبن بالحقوق المدنية والإنسانية المشروعة لعدن، فيعدن رسم حدود الممكن ويحركن ضمير المدينة من سباته القسري.
لكن هذا الوميض الإنساني، سرعان ما حاولت الأيادي الخفية اصطياده، كيف لا؟ وهي اعتادت توظيف آلام الناس وقودًا لمكاسبها، وأن تركب موجة الغضب، تارة بالتشويه وتارة بالاحتواء. غير أن صلابة نساء عدن واستقلال مطالبهن تقطع الطريق على محاولات التسييس، فالفقر ليس بطاقة عضوية في حزب أو مكون، والحق في الحياة لا يُقايض بمكاسب انتخابية أو معركة سياسية.
أي مسعى لتفكيك هذا الحراك أو تخديره سيُعد خيانة جماعية لضحايا الأزمات والأجيال القادمة.
هنا يبرز دور المجتمع المدني، والنقابات العمالية، والإعلام المستقل، والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي. صمود النساء يحتاج إلى حماية تُضفيها الشرعية الأخلاقية للرأي العام. كاميرا صحفي شجاع قد تكون في قيمتها درعًا ضد هراوة خشبية، وتغريدة مؤثر صادق قد تفتح باب تحقيق طال انتظاره.
حين يرتفع الصوت الجمعي لا يستطيع أحد خنقه، وحين تتضافر أيدي النقابيين والنشطاء والمنظمات والكتاب والفنانين، فإنهم يشكلون شبكة أمان أخلاقية يحسب لها أصحاب القرار ألف حساب.
وتتطلب هذه اللحظة أكثر من التعاطف أو الاندهاش؛ تتطلب فعلًا نبيلًا. لذلك، ندعو كل اتحاد عمالي إلى تبني المطالب العادلة لجماهيره وتوفير الحماية القانونية للمشاركات في الاحتجاج السلمي. ندعو المنظمات الحقوقية إلى توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة، وتقديم التقارير الإنسانية العاجلة للهيئات الدولية، وإيصال صوت النساء والشعب عامة.
كما ندعو الإعلاميين إلى تركيز عدساتهم وأقلامهم على قصص النساء لا على تصريحات السياسيين؛ فحيث تُعرض الحقيقة بوضوح، تنهزم الدعايات. ندعو المؤثرين إلى إطلاق وسوم موحدة، وإلى مشاركة مقاطع حية تُظهر سلمية الحراك وتضيء وجوه الأمل في عيون المشاركات، وتحفز الشعب لكسر قيد الخوف والصمت.
لا يسجل التاريخ الحياد في ساعات المحنة. إما أن نكون شهود عدل ينتصرون للحق، أو شهود زور يديرون ظهورهم ويكتبهم التاريخ على هامش الخذلان. وإذا كانت نساء عدن قد توغلن في النضال من أجل لقمة مضيئة وبيت آمن ومستقبل أقل قسوة، فإن مسؤوليتنا الجماعية كمجتمع مدني وإعلام حر واتحادات عمالية ومثقفين، هي أن نحرس هذه الشعلة كي لا تنطفئ، وأن نحيلها نورًا يضيء ظلام المدينة ويمتد في أثره لينير اليمن كله.
هذا الحراك النسوي ليس قضية فئة أو حزب أو مكون سياسي؛ إنه صوت المدينة كلها ورئتها عندما تختنق، وطوق نجاتها عندما تشتد الظلمات. فلنرفع الصوت الآن، ولنبن معهن جسر الكرامة والعدل.
نحن معًا نستطيع أن نصنع غدًا تُذكر فيه عدن لا بوجعها، بل بصبر رجالها وشجاعة نسائها. معًا، نكتب سطور الحرية والكرامة، ونعيد لعدن وجهها النضر، وللجنوب حقه في أن يعيش حياة كريمة بعد ظلم استمر لأجيال.