آخر تحديث :الخميس-14 أغسطس 2025-08:57م

مشاريع بلا وطن ومواطنون بلا دولة.

الخميس - 24 يوليو 2025 - الساعة 11:06 ص
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


ما يجري في اليمن اليوم لم يعد مجرد نزاع سياسي بين قوى تقليدية أو صراعاً مألوفاً على السلطة بين أحزاب ونخب، بل تحوّل إلى صراع بين مشاريع متباينة الجذور والتوجهات، تتقاطع أحياناً في الأهداف لكنها تتصادم في الغايات والنوايا، ويزداد المشهد تعقيداً كلما اتسعت الهوة بين الداخل والخارج، وبين تطلعات الشعب وطموحات القوى المتنازعة. في الشمال، لا يدور الصراع ببساطة بين “الشرعية” و”الانقلاب”، بل بين مشروعين رئيسيين متنافرين في الجوهر الأول تمثّله ميليشيا الحوثي (أنصار الله)، التي تسيطر على صنعاء ومعظم محافظات الشمال، وتحمل مشروعًا دينياً تيوقراطياً سلالياً، يستند إلى فكرة “الحق الإلهي” في الحكم. هذا المشروع يعمل على إعادة تشكيل السلطة في اليمن على قاعدة دينية مغلقة، مع اعتماد مباشر على الدعم الإيراني. في الخطاب، يروّج الحوثيون لشعارات مناهضة للوصاية الخارجية، لكنهم في الممارسة يرسّخون وصاية من نوع جديد، لا تقل خطورة. أما المشروع الثاني، فيمثله ما تبقّى من الشرعية اليمنية التي يهيمن عليها حزب الإصلاح، وهو تيار إسلامي ذو مرجعية إخوانية. هذا المشروع يتشبث بمفهوم “الدولة الجمهورية” كما تشكّلت بعد 2011، مع تمسّك سياسي بنمط الدولة المركزية، ومحاولة الحفاظ على شرعية ما بعد الثورة الشبابية. إلا أن نفوذ هذا المشروع تراجع كثيرًا تحت ضغط الحوثيين من جهة، والتحالف العربي من جهة أخرى، خاصة بعد انكشاف ارتباطه الوثيق بدول مثل قطر وتركيا في مراحل معينة. هذان المشروعان يتنازعان الشرعية والمشروعية، ويتصارعان على الجغرافيا، والسلطة، والموارد، وكلاهما لا يعترف بالآخر كجزء من معادلة مستقبلية للدولة. غير أن أدوات الصراع لا تنتمي إلى منطق الدولة، بل إلى منطق الميليشيا، والسلاح، والوصاية الخارجية. الصراع بينهما ليس فقط عسكرياً، بل وجودياً وهويوياً، يعكس رؤية مختلفة كليًا لمستقبل اليمن، ويتجاهل وجود قوى وتطلعات أخرى في البلاد. أما في الجنوب، فالصورة أكثر ازدحاماً وتناقضاً. مشاريع متعددة تتزاحم في مساحة جغرافية محدودة، كلٌّ منها يدّعي تمثيل الجنوب، وكلٌّ يحمل راية “التحرير” و”التمكين”، لكن دون رؤية واضحة أو مشروع جامع. هذا التنازع بين الهوية الجنوبية وتعدد القوى الممثلة لها، أفرز واقعاً هشّاً، ملغوماً بالتجاذبات والتنافرات المناطقية، التي إن لم يتم احتواؤها، فإنها قد تُجهض أي فرصة فعلية لبناء جنوب مستقر أو حتى موحّد في أدنى صوره. الصراع في اليمن ليس فقط بين من يرفعون السلاح، بل هو أيضاً بين مشاريع إقليمية كبرى، تتقاطع مصالحها على الأرض اليمنية، وتعيد رسم خطوط النفوذ عبر أدوات محلية، لا تملك في معظم الأحيان قرارها السيادي المستقل. كل طرف سياسي داخلي يرتبط بتحالف خارجي، يمثّل أحياناً طموحاته، وأحياناً أخرى عبء استمراره. وهذا الارتباط بالخارج أصبح أحد المحفزات الرئيسية لديمومة الحرب، أكثر منه رافعة للحل أو السلام. تغيب ملامح الدولة، وتبهت المؤسسات، بينما تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويعيش المواطن اليمني حالة من التمزق بين واقع معقد ومستقبل غامض، تحاصره التسويات الهشة والمبادرات الموجهة من خارج الحدود. وبينما يتقاذف الجميع التهم ويبحث عن الشرعية، يبقى اليمن رهينة حسابات إقليمية ودولية، تُدار وفق أجندات تتجاوز إرادة شعبه. في خضم هذا العبث، لا يمكن لليمن أن يخرج من نفقه المظلم إلا بمشروع وطني جامع، وعادل، وشامل، ومستدام. مشروع يُنهي الوصاية، ويؤسس لمرحلة جديدة تقوم على احترام سيادة القرار الوطني، واستعادة هيبة الدولة، وإعادة الكرامة للمواطنين، لا سيما أولئك الذين دفعوا الثمن الأكبر خلال الحرب وفي العقود الماضية أبناء تهامة والجنوب الذين ظلوا في الخطوط الأمامية، يدافعون عن الكرامة والحق، وتحمّلوا أعباء مرحلة مريرة بشجاعة نادرة. لا مشروع وطني حقيقي يمكن أن يُبنى دون الاعتراف بتضحيات هؤلاء، وضمان تمثيلهم العادل، واحترام تطلعاتهم المشروعة. فلا وحدة قسرية تصلح، ولا انفصال متهور ينقذ ولا تهميش وإقصاء ممنهج يمارس، إنما الحل يكمن في دولة عادلة تتسع للجميع، وتحتكم للقانون، لا للمصالح والسلاح، وتُدار بروح وطنية، لا بمنطق الغلبة والتفرد. اليمن اليوم بحاجة إلى تصالح تاريخي، يبدأ بالاعتراف بالواقع كما هو، لا كما يتمناه كل طرف، وينتهي ببناء مستقبل يكتبه اليمنيون بأنفسهم، لا بالنيابة عنهم.