آخر تحديث :الخميس-04 سبتمبر 2025-01:43ص

البنك المركزي اليمني: بين تصنيفات الخارج ومآسي الداخل

الجمعة - 25 يوليو 2025 - الساعة 01:21 م
د. يوسف المقطري

بقلم: د. يوسف المقطري
- ارشيف الكاتب


في اللحظة التي تتآكل فيها ثقة الناس بالعملة، ويتبخر فيها أي أمل في استقرار اقتصادي، يقف البنك المركزي اليمني في عدن وكأنه مشلول الإرادة، متردد بين الرغبة في نيل اعتراف دولي كمؤسسة مستقلة، وبين عجزه عن الاستجابة لمتطلبات الاقتصاد اليمني المنهك بفعل الحرب والانقسام داخل الشرعية.

قراءة اليوم مقابلة أجراها ونشرها الصحفي فتحي بن لزرق مع محافظ البنك المركزي اليمني، الأستاذ أحمد غالب. وقد حملت المقابلة صراحة محمودة في تشخيص المعضلات، لكن المشكلة ليست في ما قيل، بل في ما لم يُقال: أين هي الرؤية؟ أين هو الفعل؟ وأين هي حكمة من عُرف بالحكمة؟

لقد تأسست البنوك المركزية في العالم لأسباب جوهرية تتعلق بإدارة الحروب واستيعاب تبعاتها. التاريخ يخبرنا أن ما لا يقل عن 33 بنكًا مركزيًا عالميًا تأسس في سياقات الحروب أو بعدها مباشرة، ليس فقط لضبط السياسة النقدية، بل لقيادة مرحلة الحرب والاستقرار وإعادة الإعمار. وهو ما يقوم به الحوثيين من خلال سياسات البنك المركزي التابع لهم.

بل إن بنك إنجلترا نفسه، وهو من أقدم البنوك المركزية، أُنشئ في أواخر القرن السابع عشر لتمويل الحروب البريطانية ضد فرنسا. ومن بعدها، تحولت البنوك المركزية إلى أدوات سيادية تمسك بزمام الاقتصاد، لذلك يجب أن يكون البنك صاحب القرار في حكومة الحرب واللجنة الاقتصادية. وقد كتب رسالة للوالي في ثمان نقاط شملت الكثير من الملاحظات، منها رئاسة اللجنة الاقتصادية، ونُشرت في صحيفة عدن الغد. لا تقل أهمية قيادة البنك مرحلة الحرب قيادته مرحلة الاستقرار والتعافي، ولا يكتفي بالمراقبة وصياغة التقارير.

أما في حالتنا اليمنية، فنجد البنك المركزي مهتما مشغولًا بإقناع صندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات المالية بتقارير "الامتثال" أو العكس من ذلك، فيما يغيب عن أولوياته ما هو أهم: الامتثال لهموم الناس، ومقتضيات الاقتصاد الواقعي، والقيادة الوطنية للمرحلة ومنها واقع الحرب.

المشكلة ليست فقط في توقف تصدير النفط، ولا في العبث بالموارد، ولا في الصرافين، ولا في الحوثيين الذين تحولوا إلى "شماعة" جاهزة لتفسير كل فشل.

المشكلة الجوهرية أن البنك المركزي يحاول أن يتصرف كما لو أنه يدير اقتصادًا طبيعيًا، في حين أننا نعيش اقتصاد حرب متعدد الأقطاب والمصالح. إنه يتشبث بمفهوم "الاستقلالية عن الواقع" لا عن السلطة، وكأن بمقدوره أن يُدار بمعزل عن التشظي السياسي، والانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية بينما الواقع يتطلب مرونة إبداعية في التعامل مع الفاعلين المحليين، وبناء روابط تنسيقية قوية مع الأطراف الداخلية والخارجية، فضلًا عن تدخل مباشر لحماية المجتمع من الانهيار لا مجرد مراقبته. في السياق ذاته، كل فصيل داخل الشرعية يمكن أن يقبل بتنازلات اقتصادية محدودة لتخفيف حالة السخط الشعبي، دون أن يتنازل عن طابعه الخاص أو عن مواقعه ضمن حالة التجزئة السياسية، وهي حالة لن تُحل إلا بقرار سياسي خارجي حاسم.

الأستاذ أحمد غالب يمتلك من الحكمة ما يؤهله لقيادة هذه المرحلة، لكن انغماسه في تعليمات المؤسسات الدولية جعله أسير وهم "الاستقلالية الشكلية"، بدلًا من قيادة استقلالية واقعية نابعة من فهم تعقيدات الداخل.

وهي نفس الإشكالية التي تعاني منها كثير من القيادات السياسية: فقدان الحكمة تحت غطاء التبعية، بدلًا من إنتاج حلول تنبع من خصوصية الواقع اليمني واعتماد الذات.

كان على البنك أن يبادر بتقديم حزمة سياسات عملية تناسب الظرف الاستثنائي " الحرب والسلم"، بدلًا من الوقوف في منتصف الطريق، يتلقى الضربات من الجميع، دون أن يمتلك القدرة أو الجرأة على صياغة تفاهمات مع الأطراف الممسكة بزمام الأمور، تفرض التزامات حقيقية على الحكومة، وتعيد الاعتبار للسياسات النقدية لا كجهاز رقابي فقط، بل كفاعل إنقاذ وطني.

لقد أصبح واضحًا أن المشكلة لا تكمن فقط في ضعف الموارد أو عبث السلطات المحلية، بل في غياب التناغم بين السياسات الاقتصادية والنقدية، وغياب التنسيق بين الفاعلين الرسميين وقيادة البنك.

البنك المركزي في زمن الحرب لا يكفي أن يكون مستقلًا، بل يجب أن يكون طرفاً قادرًا على تحريك الدولة نحو مسار النجاة.

"نحن لا نطالب البنك بالتخلي عن استقلاله، لكننا نطالبه بفهم معنى السيادة الاقتصادية في زمن هشّ، حيث الاستقلال بلا قدرة يصبح عبئًا، والسيادة بلا أدوات تصبح شعارًا فارغًا".

إن أزمة الحكومة الشرعية الاقتصادية لا تنتظر توصيات من المؤسسات الدولية، بل تنتظر من يقود اللحظة باقتدار، ومن يدرك أن البنك المركزي ليس مؤسسة محايدة في معركة بقاء، بل أحد أبرز أدوات قيادة المرحلة وما بعد الحرب، نجاح البنك في مرحلة الحرب تأهله لخوض الاستقرار وعجلة التعافي وثقة المجتمع الدولي، ليكون البديل الوحيد لمنصة انطلاق نحو التعافي وإعادة الإعمار.

الخلاصة: يمكن القول: إن كان المحافظ يدري عمق الأزمة ولا يتحرك، فالمصيبة عظيمة، وإن لم يكن يدري، فالمصيبة أعظم.

د. يوسف المقطري

24 يوليو 2025م ، القاهرة