آخر تحديث :الخميس-04 سبتمبر 2025-01:43ص

اقتصاد الحرب.. بين التوازن الدستوري والاستراتيجية الاقتصادية في اليمن

الثلاثاء - 29 يوليو 2025 - الساعة 01:03 م
د. يوسف المقطري

بقلم: د. يوسف المقطري
- ارشيف الكاتب


تواجه الدول في زمن الحرب تحديات دستورية من الناحية المدنية واقتصادية والسياسية، في هذا المقال سوف نناقش التوازن الدستوري والاقتصادي السياسي للحرب، تاركا البعد المدني والحريات لمقال آخر، من السهل على الدول إعلان القوانين العرفية ومصادرة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية، لكن مع تعالي صوت الشعوب وجدت أساليب حديثة تهدف إلى ما نطلق عليه "التوازن الدستوري" للتقليل التعارضات والاحتياجات الاستراتيجية مع الالتزامات الدستورية المتعلقة بالحريات المدنية والحقوق الاقتصادية والتي تتطلب فهما عميقا للقوانين الدستورية والاستراتيجية الاقتصادية في زمن الحرب وآثارها على المجتمع.

تعتبر الاستراتيجية الاقتصادية في زمن الحرب عنصرا حاسما في تحديد كيفية تخصيص الموارد وتوجيه السياسات المالية والنقدية لدعم المجهود الحربي. تتطلب توازنا دقيقا بين الحفاظ على الأمن القومي ومبدأ الشفافية والمساءلة والإفصاح التي تفرضها القوانين واتخاذ قرارات استراتيجية مدروسة لضمان تلبية الاحتياجات العسكرية والمدنية مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. ومن خلال نهج التوازن بين الدستور والاستراتيجية الاقتصادية. يمكن للحكومة اليمنية والباحثين ومراكز الأعلام الباحثين الشفافية؛ تطوير سياسات أكثر فعالية لدعم الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي خلال فترات الحرب.

السرية الاقتصادية جزء من الاستراتيجية الحربية:السرية وإدارة الموارد الاقتصادية في مراسلات كنز كانت جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات الحرب، وكان يردد أن الشفافية الكاملة في إدارة الاقتصاد الحربي قد تُفشي أسرارًا استراتيجية، مثل حجم الاحتياطيات أو خطط التمويل. على سبيل المثال، إخفاء تفاصيل القروض الأمريكية كان ضروريًا لتجنب إضعاف الموقف التفاوضي البريطاني.

تاريخيًا، كانت السرية في إدارة الموارد الاقتصادية جزءًا أيضاً لا يتجزأ من استراتيجيات الحروب الحديثة على سبيل المثال في الديمقراطيات الحديثة ( في إسرائيل، والحرب الأمريكية، الحرب الفيتنامية، وكرانيا) تُدار الشفافية والمساءلة المالية من خلال آليات مختلفة، بما في ذلك الرقابة البرلمانية والتدقيق الحكومي. خلال فترات الصراع، تُحافظ الحكومة على مستوى معين من الشفافية، ولكن قد تكون هناك قيود على المعلومات المتاحة بسبب اعتبارات الأمن القومي، وكانت الرقابة البرلمانية محدودة في بعض الأحيان، مما أدى إلى نقص في الشفافية.

سرية الموازنة: (التمويل والأنفاق)لعب كنز عراب الاقتصاد البريطاني دورًا حاسمًا في صياغة السياسات الاقتصادية البريطانية قبل الحرب وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. البحث في كتاباته ومذكراته، تعطي الباحث تفاصيل كثيرة عن كيفية إدارة بريطانيا لمواردها المالية بسرية تامة لضمان نجاح الجهود الحربية. لم يكن كنز مهتم بالاقتصاد التقليدي فقط، بل كان له دور كبير في اقتصاد الحرب، في كتابه "1940,How to Pay for the War" كتب عن التمويل والأنفاق في زمن الحرب ( وضع مجموعة من تدابير اقتصاد الحرب، ركز على جانب الطلب ليست موضع بحثنا هنا)، اقترح كينز خطة لتمويل الحرب، مع الحفاظ على سرية التفاصيل وكانت وزارة الخزانة البريطانية تخفي حجم مواردها الحقيقية وقروضها، لتجنب إضعاف الموقف التفاوضي أو حصول العدو على معلومات حساسة.

ورد في مجموعة مؤلفات كنز( معارك كنز)، لم يكن كينز المفاوض الاقتصادي عن التاج البريطاني يخفي المعلومات المالية فقط عن العدو الألماني ودول المحور، بل حتى على الحلفاء والأصدقاء من دول التحالف، قاد مفاوضات مع الولايات المتحدة للحصول على قروض بموجب قانون (الإعارة والتأجير) الصادر خلال الحرب عام 1941م، قبل دخول أمريكا الحرب مباشرة في ديسمبر من نفس العام، وهي التي كانت المنقذ والمقرض المالي والملجأ الوحيد أمام الاحتياجات البريطانية ودول التحالف لتمويل المجهود الحربي، ومع ذلك أصر كنز على عدم الكشف عن تفاصيل احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية البريطانية لها، لأن ذلك كان يُعتبر سرًا استراتيجيًا. وقال في مراسلاته لوزارة الخزانة البريطانية التي يعمل بها "إن الكشف عن ضعف احتياطاتنا سيجعلنا عرضة للضغوط السياسية والاقتصادية من الحلفاء والأعداء على حد سواء." لذلك كان كنز لا يخفي قلقه بشأن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية الوافدة، وقد عكس مخاوفه في المفاوضات اللاحقة للحرب واعتراضه على تثبيت الدولار الأمريكي كعملة مرجعية رئيسية بدل الجنية الاسترليني، كان كنز يأمل بالتعاون الاقتصادي "الند للند" وليس الهيمنة وهو ما كان يخفيه.

التحديات الداخلية للحوكمة داخل الشرعية:

التحدي الدستوري: يبدو أن الحوثيين قد جمّدوا الدستور بشكل غير معلن وكان لهم قرار واضح بذلك، بينما تعمل الحكومة الشرعية بالدستور وهذا يتطلب التوازن الدستوري المطلوب على الواقع، الألتزام الدستوري جعلها متهمة بعدم الوفاء ولا تختلف عن المليشيات. غياب المؤسسات الاستراتيجية جعلها تواجه تحديات في تطبيق التوازن والحوكمة الجيدة، خاصة فيما يتعلق بالشفافية والمساءلة ويرى الباحث أن التحديات تكمن في:

التحدي الخارجي: يأتي من المؤسسات الدولية، والتحالف والرباعية. والتي تطالب الحكومة الشرعية بالشفافية والمسائلة لوقف الفساد كشرط لتقديم الدعم المالي للحكومة والبنك المركزي في عدن، وهذا التحدي لن يتم قبل معالجة التحدي الداخلي موضع تركيز الباحث.

التحدي الداخلي: يأتي من الرأي العام الداخلي، المطالب بالشفافية بسبب الإحباط من توقف المرتبات وتدهور الخدمات. فالاحتجاجات في عدن وتعز وحضرموت (2023-2025) غالبًا ما ركزت على غياب الشفافية في إدارة الإيرادات (مثل ميناء عدن أو نفط مأرب،...). الموازنات الخاصة للفصائل تمثل أمن وجودي وهنا قد يحدث الافصاح موجة صراع بين الفصائل وهذا ما تسعى له كثير من القوى السياسية أما عن قصد أو من غير قصد. ومع ذلك، الشفافية العامة الكاملة قد تؤدي إلى ردود فعل سلبية ايضاً إذا كشفت عن ضعف الاحتياطيات أو توزيع الإيرادات بين الفصائل، مما قد يزيد من السخط الشعبي أو يُستغل من قبل الحوثيين للدعاية.

جوهر التحدي الحقيقي: يرى الباحث أن التحدي الحقيقي لتنفيذ الحوكمة، يكمن في التركيبة الداخلية المعقدة لمكونات الحكومة، والتي تشمل فصائل مختلفة ذات أجندات وانقسامات متعددة تسيطر على مناطق جغرافية وموارد مالية لدعم نفوذها ووجودها. وتعتبر المعلومات المالية أمن استراتيجي لتعزيز نفوذها أو إضعاف خصومها. لأنها ترى أن الشفافية الكاملة في اقتصاد الحرب قد تُعرضها للخطر داخل الشرعية وأمام الحوثي والخارج.

نهج الكاتب: يقترح الكاتب إتباع نهج "التوازن الدستوري" فالمطلوب من قيادة الشرعية هو أستكمال تكوين المؤسسات الستراتيجية للحرب المتمثلة: (مجلس الحرب، حكومة مصغرة، ولجنة اقتصادية، ولجنة برلمانية)، هذه المؤسسات الاستراتيجية للحرب، يمكن أن تساعد في حل المشكلة المالية وتعزيز الحوكمة الجيدة وتطبيق الشفافية والمساءلة وتقوم بالغرض الدستوري نيابة عن كل السلطات التنفيذية والتشريعية، ومعالجة التعارض بين متطلبات الشفافية من المؤسسات الدولية والتحالف والحاجة إلى السرية في اقتصاد الحرب، مثل "ألية الشفافية الجزئة" وهو ما تقوم به الدول الديمقراطية التي لا تعتمد القوانين العرفية. وهذا يتطلب أنشاء أليات مختلفة سوف نخصص لها مقال أخر مستقل.

الوطن فوق الاختلافات الجانبية:

يخبرنا التاريخ والأحداث العظام أن القادة مهما اختلفت مواقفهم وأرائهم يُغلبون مصلحة الوطن على مصالحهم، وفقا لكتاب (العواقب الاقتصادية للسيد تشرشل) ومذكرات كنز، تفيد تلك الكتابات؛ أن تشرشل وكنز قد اختلفا في بعض المسائل والسياسات الاقتصادية (كنز كان متهما باليسارية نتيجة دعواته لتدخل الدولة بينما تشرشل كان لبراليا متشددا)، إلا أنهما عملا معا لتحقيق الأهداف المشتركة وتطوير استراتيجيات اقتصادية لدعم المجهود الحربي، بما في ذلك إدارة التضخم وتمويل الحرب.

تشرشل كان سياسيا وكان لديه آراء حول الاقتصاد وكان رئيس الوزراء، وكان يدرك أهمية القوة الاقتصادية في دعم المجهود الحربي، لم يستبعد كنز من منصبه نتيجة اختلافه معه، بل عملا معا على تعزيز الاقتصاد البريطاني وتأمين التمويل اللازم للحرب. كانت هذه التدابير تنفذ بحذر لتجنب إثارة القلق الاجتماعي الداخلي، مع الحفاظ على سرية حجم التمويل والعجز المالي الحقيقي لعدم إثارة المخاوف الداخلية والأطماع الخارجية. على عكس مايحصل اليوم في نهج وسلوك قيادات حكومة الشرعية التي يعد موقفها أصعب بكثير، فالهدف المشترك والاستراتيجية هي الاخرى غلب عليها التشظي.

بقلم: د. يوسف شمسان المقطري

القاهرة